منظومة التحضر

عزت بولس

بقلم: عزت بولس
كلما سنحت لنا الفرصة نعود للتاريخ ونتحدث بفخر منقطع النظير عن أن حضارتنا نحن المصريين تعود إلى أكثر من سبعة ألاف  عام مضي، وهذا أمر ليس بسيء فكل الشعوب تتحدث عن ما تركه لهم الأجداد من تاريخ وحضارة، ولكن العجيب في أمرنا نحن المصريين هو أننا لا نتفاعل مع حضارتنا الفرعونية بأي صورة حقيقية تتجاوز كلمات الإعجاب بما صنعه الأجداد،بل أننا لا نشعر بمصريتنا إلا في أوقات قليلة جدًا تكاد تنحصر جميعًا في بعض الإنجازات الكروية المحدودة، حيث تخرج الجماهير صارخة "مصر ...مصر" لتبقي الأسئلة الموجعة أين مصر تلك التي نهتف باسمها في سلم أولوياتنا؟ لماذا لا يجتمع المصريين حول هدف قومي يحقق لمصر تلك التي نزعم طوال الوقت بأننا نحبها مزيد من الرخاء والتقدم لتنضم للأمم المتحضرة ولا تسقط ببئر الهاوية الدينية أو غيرها؟ إذا وجدنا إجابات لتلك الأسئلة سندرك جيدًا قيمة مصر الحقيقة في نفوسنا.

"الفراعنة يسحقون...، الفراعنة يدمرون.....، الفراعنة يحطمون...." عبارات تثير إعجابنا جدًا عندما نلمحها كعناوين رئيسية لوصف المصريين بالصحف أثناء مباريات الكرة،لكن هل نحن بحق نفخر بهويتنا المصرية؟ لا أعتقد ذلك والدليل خلطنا المستمر بين فكرة كوننا مصريين أم عرب!!مع أن تلك المسألة ليست بحاجه للجدل الكبير والحيرة وطرح سؤال هل نحن عرب أم مصريين؟ وسأشرح بمثال بسيط ما يحسم ذلك الجدل، فالأوربيين على سبيل المثال هم عدة شعوب تجد منهم الألماني والسويسري والنمساوي وعلى الرغم من اشتراك بعضهم في النطق بلغة واحدة إلا أن هذا لا يمنع اعتزاز كل منهم بهويته الخاصة فالألماني يعتز بألمانيته وكذلك السويسري وهكذا دون أن يمس ذلك اعتزاز كل منهم بهوية وطنه بالكيان الأكبر الذي يجمعهم جميعًا أوربا.

مصريتنا دفنت داخلنا وقل اعتزازنا بها ليس لأننا نتحدث العربية ونشارك شعوب أخرى مجاورة لغتهم،وإنما لأن هناك مشروع سياسي "عروبي" إن جاز التعبير يستهدف تضليلنا واستخدامنا كأداة لتحقيق مصالح آخرين وليس مصلحة مصر،وبالفعل نجح هؤلاء في تشتيتنا وأصبحنا غير مكترثين بقيمة هويتنا المصرية ولهذا لاعجب الآن أن تجد وسط المصريين من يحلم بدولة الخلافة الإسلامية أو من يدعو لتطبيق أنماط حياتية وثقافية متشددة موجودة بدول مجاورة داخل مصر "أم الدنيا ومنبع الحضارة" لنعود ببلدنا عن جهل للوراء مئات السنوات دون أن نعي حجم خطورة ما نفعله لمن نزعم بأننا نحبها.
هناك مقاييس تستخدمها الشعوب لمعرفة مدى قدرتها على وصف واقعها بأنه"متحضر" وإذا حاولنا نحن المصريين قياس واقعنا وفق معايير الحضارة لليوم سنجد أنه من العسير جدًا أن نصف مصرنا بأنها تعيش حضارة معاصرة، فنحن بواقعنا الحالي أبعد ما نكون عن الحضارة بكل ما تشمله من مفردات تدل عليها كالتقدم التكنولوجي والاقتصادي والرقي الإنساني باعتباره أهم ما يميز الحضارة الحقيقية برأيي.

في ظل واقع مؤسف بعيد كل البعد عن حضارة الأجداد واليوم يسعى بعض المصريين للهرب بعيدًا مهما كلف ذلك البعد من مشاعر سلبية لصاحبه، ويكفي أن نرى الصفوف الطويلة الواقفة في إذلال أمام السفارات الأجنبية بالقاهرة، فهؤلاء الراغبين في الهرب لا يهمهم في موطنهم الجديد –الذي يسعون للهرب له- أن يجدوا عمل يتناسب مع سنوات دراستهم الطويلة المهم أن يجدوا طريق يحقق لهم "الهروب من مصر" وبالفعل سرعان ما ينجز هؤلاء بجد غير مسبوق ولم يمارسوه في بلادهم بالأعمال التي يلتحقوا بها في الدول المستضيفة لهم، ليجد المصري أن بعض التقنيات التكنولوجية في عالم الغرب المبهر موجودة بمصر لكن مالا يوجد هو كيفية التعامل مع تلك التكنولوجيا؟ فالغربي يستخدم التكنولوجيا لما يحقق فائدته ويطور عمله وقدراته ولا يلهث وراء كل ما هو جديد تكنولوجيًا لمجرد الحصول عليه دون فهم كما نفعل نحن داخل مصر.

من هنا يبدأ المصري فهم المعنى الحقيقي للتحضر وأنه ليس مجرد اقتناء كل ما هو جديد، وإنما منظومة تقوم على مجموعة من العناصر المهمة جدًا كإجادة العمل والمشاركة بفاعلية في كل مفرده للعمل حتى لو كانت صغيرة مع الرقابة الذاتية النابعة من داخل الفرد على الأداء-هذا لا يمنع وجود معايير لدي كل مؤسسة لتحديد الأداء- ودون مبالغة يمكنني القول أن "إجادة العمل" هو أساس المنظومة القيمية الغربية المتحضرة فمن يجتهد بعمله ويعطيه بجد يؤكد على أنه منتمي لمؤسسته فيطورها ومن ثم منتمي لبلده لأن نجاح المؤسسة التي يعمل بها عندما يتراكم مع نجاحات مؤسسات أخرى بها أفراد يسيرون بذات الكيفية يحقق إنجاح للمجتمع ككل على المدى البعيد والقصير.

معايشة المصري للحضارة الغربية لسنوات طويلة وتحقيق نجاحات مهنية وحياتية يجعله رافض فكرة العودة لبلاده بل في بعض الأحيان رافض لمجرد زيارة تلك البلد في الأجازات السنوية،وفي ذات الوقت يرفض المصري الاندماج الكامل مع كافة أشكال الحضارة الغربية تحت تأثير عوامل كثيرة دينية على سبيل المثال أو من الموروثات الثقافية والاجتماعية التي زرعت بداخله داخل مصر بسنوات الطفولة والشباب فيعيش مشتت رافضًا أن يجد علاقة بين الأفكار التي يرفضها والتقدم الذي يتمتع به في مجتمع مغاير لموطن نشأته.