أنور لوقا وحوار الثقافات (1)

نسيم مجلي

بقلم: نسيم مجلي
سئل الدكتور أنور لوقا: كيف تقدم نفسك؟ فأجاب:
يطيب لي أن أقدم نفسي كوسيط ثقافي.. أستاذ متميز في جامعة النور ـ ليون الثانية، وعلاوة على ذلك فأنا قادم من مكان أبعد بكثير، وإذا كان فضائي المألوف يخترق الحدود فإن عملي يتجاوز التدريس إلى حد بعيد، فأنا كنت دائمًا الكاتب المؤلف والناقد الأدبي والرحالة والمختص بالدراسات المقارنة والمترجم والصحفي وأمين المكتبة والمؤرخ والمولع بالموسيقى والمختصص بعلوم العلامات والدلالات.. وفي جميع الأحوال كنت باحثًا.
هذا هوالدكتور أنور لوقا الذي رحل عن عالمنا في الرابع من أغسطس عام 2004 بعد خمسين عامًا من الجهاد في التدريس والكتابة والترجمة وخسرنا بوفاته باحثًا نادرًا في التاريخ والأدب المقارن قلما يجود الزمان الشرق والغرب.

نقطة البداية هي مصر التي غادرها في عام 1950 وعمره ثلاثة وعشرون عامًا إلى باريس حيث أمضى منها سبع سنوات انتهت بحصوله على دكتوراه الدولة في الأدب المقارن..
ألّف الدكتورأنور لوقا وترجم عددًا كبيرًا من الكتب والدراسات بالفرنسية والعربية منها كتاب "عودة الطهطاوي" الذي نُشر في تونس عام 2000 وكتاب "بلزاك" و"هذا هو المعلم يعقوب" الذي أصدره المجلس الأعلى للثقافة سنة 2002 بمناسبة الندوة التي أقيمت حول مشروع لويس عوض الثقافي، بالإضافة إلى كتابه عن "جون نينى" صديق عرابي، وكتابه عن "إدريس افندي" ودراسته "النهضة المصرية وحدود أعمال بونابرت" التي وصفها جاك بيرك بأنها تحطيم للأصنام، كذلك وضع كتالوجًا للمخطوطات العربية لمكتبة جامعة جنيف، فضلاً عن ترجماته لمسرحيات كلوديل وبيكيت ويونيسكو وغيرهم.

وُلد أنور لوقا سنة 1927 بمدينة ملوي في صعيد مصر وكان أبوه تاجرًا يمتلك حانوتًا في المدينة القديمة يبيع فيه كل السلع التي تستوردها الأقاليم، حقق والده نجاحًا كبيرًا بفضل حبه للعمل وأمانته وثقة الناس فيه، كذلك تزوج من فتاة من خارج العائلة، خريجة "كلية أسيوط للبنات" التي أسستها البعثة الأمريكية..
أدخله والده مدرسة "يوسف غيطاس" وهي مدرسة قرآنية تابعة لمؤسسة الوقف الإسلامية وفيها تعلم المبادئ الأولية للغة العربية، وبعدها انتقل إلى المدرسة القبطية الملاصقة للكنيسة ذات الجرسين وهناك ابتدأ في تعلم الإنجليزية.
وعن أثر هذه المدارس في نفسه يقول أنور لوقا "ولكن إزدواجية مدرسة قرآنية ومدرسة قبطية في صدر أوراقي الدراسية كانت علامة تنبئ بمستقبل مساري الفكري، فالنصوص العربية التي تتحدث عن الفتح الإسلامي لمصر القبطية بعد قرنين من حصول الأحداث فعليًا سوف تستوقفني كثيرًا.. وسأحظى من خلال ظواهرها المتكررة إلى الأسس الأولى لمنهجيتي في تحليل الخطاب، هذه المنهجية المتمركزة حول كيفية تشكل المعنى".

إلتحق أنور لوقا بكلية الآداب حيث تخصص في اللغة الفرنسية، وفي مرحلة (الدراسات العليا) اختص أنور لوقا بالأدب المقارن.
أول اتصال بطه حسين
يعود أول اتصال له بطه حسين إلى عام 1949 حين قرأ ترجمته لمسرحية "أندروماك" لراسين التي نشرها عام 1924، وأخذ أنور لوقا يقرأ الترجمة والنص الأصلي ويقارن بينهما ويرى كيف تحولت أشعار راسين إلى نثر عربي رائع، ثم قرر أن يترجم مسرحية "بيرينيس" بنفس الطريقة ووضع لها مقدمة طويلة مستفيدًا فيها من المراجع التي تناولت المسرحية ثم أهدى الكتاب إلى طه حسين وسلم الكتاب إلى صديقه ريمون فرنسيس المعيد بالكلية لكي يوصله إلى العميد، ثم عاد ليقول لأنور لوقا أن الأستاذ يريد أن يراجع الترجمة وأنه حدد لهذا الامتحان أمسية خاصة في منزله وكما يقول لوقا كان لقاء تاريخيًا لا يُنسى: "لا أستطيع أن أروي لك في بضع دقائق ذلك الإنبهار الذي أحسست به عندما رأيته وتلك الصرامة والدقة والاحساس بالنهضة والافتخار الذي ملأ على أقطار نفسي".

وفي نهاية الجلسة تحدث أنور لوقا مع العميد عن رغبته في كتابة بحث للماجيستير في الأدب الفرنسي عن رحلة الطهطاوي إلى باريس باعتبارها تحقيقًا عربيًا عن الحضارة الفرنسية، فوافق على هذا الاختيار ونصحه بأن يضيف دراسة مقارنة بين رحلة الطهطاوي إلى باريس ورحلة جيرار دونرفال إلى مصر في نفس الفترة، وفرح أنور لوقا لأن طه حسين وافق على أن يقوم بالإشراف على بحثه.

وبعد بضعة شهور عُيّن طه حسين وزيرًا للتربية الوطنية وفي هذه الفترة صدرله كتاب "الوعد الحق" وفيه يتحدث عن المجتمع الإسلامي الأول ويصور حياة المستضعفين الفقراء من أصحاب النبي، فقدم أنور لوقا عرضًا للكتاب بالفرنسية في مجلة (La Revue du Caire)
وقرأ طه حسين الموضوع وأُعجب به فسأل عن أنور لوقا، فلما علم بذلك صدفة من زميل قابله في الطريق ذهب دون موعد لمقابلته في مكتبه بالوزارة فاستقبله االعميد وأثنى على تقديمه لكتابه في مجلة القاهرة ثم قال له "من كان له أسلوبك ينبغي أن يذهب إلى فرنسا".
ولم يطلب من أنور لوقا سوى أن يقدم طلبًا وبعدها سافر لزيارة أهله في ملوي لكي يودعهم ثم سافر إلى الغرب كما فعل بطل قصة "أوديب"، لقد ذلل طه حسين العقبات الإدارية وفتح لأنور لوقا الطريق إلى باريس كما فعل الشيخ حسن العطار مع الطهطاوي من قبل، لقد تعلق أنور لوقا بالطهطاوي وبرحلته سنوات طويلة وكتب عنه كثيرًا من الأبحاث والدرسات الهامة بالفرنسية وبالعربية.
وكتابه "عودة رفاعة الطهطاوي" الصادر عن دار المعارف للطباعة والنشر بتونس عام (1997) هو طبعة جديدة منقحة لكتاب "ربع قرن مع رفاعة الطهطاوي" الصادر في سلسلة "اقرأ" سنة 1985 عن دار المعارف بمصر، وقد أضاف المؤلف إلى هذه الطبعة فصلين هامين هما: المقدمة والخاتمة - نهاية المطاف، بالإضافة لمقدمة الناشر التونسي

الأستاذ منجي الشملي وهو أستاذ متميز للأدب المقارن بجامعة تونس الأولى.
ونظرة عابرة على عناوين الكتاب تكشف لنا بوضوح أهمية الموضوعات التي يتطرق إليها الكاتب في هذا السفر الهام، وعنوان الكتاب ذاته يحمل عدة دلالات عميقة.. فما معنى هذه العودة؟ إنها عودة جديدة من خلال الأدب المقارن تكشف لنا أن رحلة الطهطاوي لم تكن مجرد رحلة في المكان من باريس إلى القاهرة، وإنما هي أيضًا رحلة في الزمان من الحداثة إلى التراث.. يقول د. لوقا:
"يعود إلينا رفاعة الطهطاوي (1801 ـ 1873) لا من رحلة المكان فحسب -بعثته الشهيرة إلى باريس- بل من رحلة الزمان أيضًا، بعد أن اجتاز في استكشاف الحداثة خضم القرن الماضي، وأصبح رائدنا اليوم في حركة العبور المزدوج من التراث إلى المعاصرة ومن المعاصرة إلى التراث ونحن نتجمع –ولو تشرذمنا- على ساحل القرن الحادي والعشرين".

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع