بهجة الخريف

هند مختار

بقلم: هند مختار
 كان ميلاده في الخريف، وكانت وفاته في الخريف، وما بين خريف الميلاد وخريف الممات منحنا بهجة الربيع التي لن تنتهي أبدًا.

 هو فيلسوف البهجة، عالم الكوميديا، حامل لواء الضحك في المسرح والسينما والتليفزيون والإذاعة.

 لم يقلد أحدًا، ولا يستطيع أن يقلده أحد، هو عمٌ لجيل كامل من أطفال "مصر"، من أوائل الثمانينات وحتى آواخر التسعينات.

 حاولت أن أكتب عنه كثيرًا؛ خصوصـًا وأن ذكرى ميلاده ووفاته كانتا قريبتان، ولكن لأكثر من مرة لا أستطيع الكتابه عنه وأتوقف، فكيف أكتب عن ذكريات طفولتي بأنها كانت؟ وأن صانعها كان وانتهى؟!

 لم يحفزني عن الكتابة عنه إلا وفاة "صلاح السقا" في سبتمبر الماضي، والذي خطف الموت منا بهجة الطفولة مرة أخرى وفي نفس الشهر، فوجدت أنني سوف أتحدى أحزان الخريف وأتحدث عنه؛ إنه "عمو فؤاد"، أو "فؤاد المهندس" الفنان القدير الرائع.

 "فؤاد المهندس" من مواليد الرابع من سبتمبر سنة 1924م، وكان ترتيبه الثالث بين إخوته "صفية"، و"درية"، وكان له شقيق رابع هو "سامي".

 والده هو عالِم اللغة "زكي المهندس"، والذي ساهم في تشجيع مواهب أبنائه حتى أخرج لنا درتين؛ الأولى الإذاعية اللامعة "صفية المهندس"، والرائع "فؤاد المهندس".

 عشق "فؤاد المهندس" فن التمثيل، وقد بادله هذا الفن العشق بالعشق، وحينما كان الفنان "حسين فهمي" يكرم نجوم الكوميديا، قام بوضع اسم "فؤاد المهندس" في آخر الأسماء المكرمة للصعود على خشبة المسرح -آخر الأسماء كتكريم وليس تقليلاً من شأنه- وإذا بعاصفة من التصفيق تدق في قاعة الاحتفالات لأكثر من عشر دقائق، وإذا بالحاضرين والضيوف يقفون احترامـًا لهذا الفنان العبقري، وتملأ الدموع عينيه وعيون الحاضرين.

 كان "عمو فؤاد" يعشق "الريحاني"، وقد قابله حينما كان في البكالوريا وأُعجب بأدائه في مسرحية "الدنيا على كف عفريت"، والتحق "عمو فؤاد" بالفرقة ولكن "الريحاني" لم يساعده كثيرًا، وكان أكثر شيء يمكن أن يطلبه منه "نجيب الريحاني" ويلبيه "عمو فؤ" بسعادة، أن "يشتري له علبة سجائر من الكشك اللي جنبه)، وبعد وفاة "الريحاني" التحق بفرقة "ساعة لقلبك"، والتي كانت تُعد انطلاقه كبيرة له.
 
كان المخرج الكبير "محمود ذو الفقار" مقتنعـًا تمامـًا بموهبة "فؤاد المهندس" الكوميدية؛ فكانت تجربة "بنت الجيران" التي لم تنجح، ولكن "فؤاد المهندس" لم يتوقف أمامها كثيرًا، ولقد قدم بعد ذلك أدوارًا مهمة مع ملك الرومانسية "عز الدين ذو الفقار" في أفلام "عيون سهرانة"، و"بين الأطلال"، و"الشموع السوداء"، و"موعد في البرج".

 لم يكن يقدم "عمو فؤاد" دور المضحكاتي أو صديق البطل، بل كان يقدم أدوارًا لها مساحتها وقوتها.

 قدم "حلمي رفلة" عمو "فؤاد" كبديلاً لـ"عبد السلام النابلسي" في فيلم "معبودة الجماهير" نتيجة فرار "النابلسي" إلى "لبنان" هربـًا من "مصلحة الضرائب"، والتي كانت تطارده.

 بعد هذا الفيلم قدَّم مع ملك الكوميديا في السينما "فطين عبد الوهاب" "أرض النفاق"، ثم قدَّم بعد ذلك مجموعة من الأفلام الناجحة مثل "أخطر رجل في العالم"، و"أجازة غرامية"، و"الراجل ده هيجنني"، و"شنبو في المصيدة"، والذي حقق نجاحـًا تجاريـًا هائلاً؛ خاصة وأنه أُنتج في أعقاب النكسة، ويفسر القائمون على صناعة السينما ما حدث بأن الناس كانت راغبة في الضحك في تلك الفترة، وقد حقق فيلم "شنبو في المصيدة" نفس النجاح في الإذاعة، وألف هذه الرواية للسينما والإذاعة "أحمد رجب".

 "عمو فؤاد" صاحب درة خاصة في الأداء وتلوين الصوت، حيث تتحول الجملة العادية على لسانه إلى جملة مضكة، ونتيجة لقدرته على هذا التلوين الصوتي والأداء السليم أدى كثيرًا من الأغاني، ولحَّن له كبار الملحنين.
 
فقد قدم أغنية "يللا حالاً بالاً حيوا أبو الفصاد"، وأغنية "رايح أجيب الديب من ديله"، ودويتو "الراجل ده هيجنني" مع "صباح"، ودويتو "مدفع رمضان" مع "شويكار"، وقام بالغناء أيضـًا في فيلم "زوج في أجازة" أغنية "حبيبي يا رقة"، وأغنية فيلم "جناب السفير".

 بالإضافة إلى أروع الأغاني في فوازير "عمو فؤاد"، وهي تعتبر من أنجح وأكمل الأعمال التي قُدمت للأطفال في القرن الماضي، والتي في اعتقادي إذا أُعيد تقديمها مرة أخرى سوف تنال نفس الجاذبية من الأطفال.
 
وفي إطار المسرح أيضـًا لم ينس "المهندس" الأطفال، بل قدم لهم ومعهم مسرحية "هالة حبيبتي"، والتي نجحت نجاحـًا باهرًا مع الأطفال.

 فوازير "عمو فؤاد" كانت السبب في حدوث خلاف كبير بين صديقي العُمر وشريكي الكفاح "فؤاد المهندس" و"عبد المنعم مدبولي"، حيث اختلف "عمو فؤاد" مع المسؤولين في التليفزيون حول الأجر الذي يتقاضاه، وبعد ذلك فوجيء بإسناد الفوازير إلى "مدبولي" الذي وافق، وكانت فوازير "جدو عبده"، وقدمها لمدة سنتين، ويرفض "فؤاد المهندس" محاولات المصالحة من جانب "مدبولي"، حتى اتصل به "مدبولي" وهنأه على التكريم في "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، ليذوب الجليد وتعود الصداقة من جديد.

 لم يكن "عمو فؤاد" أنانيـًا على المسرح، بل كان يسمح للجميع بتقديم ضحكاته للجمهور، وكان أيضـًا يساعد في اكتشاف النجوم؛ فهو مَن قدم لنا الزعيم "عادل إمام" في مسرحية "السكرتير الفني"، وجملته الشهيرة "بلد شهادات صحيح"،وقدَّم أيضـًا "سيد زيان" في مسرحية "سيدتي الجميلة"، و"الضيف أحمد"، ولكن الموت كان له أسبق من الجميع ،وغيرهم من النجوم والنجمات.

 وكان أهم ما يتمتع به "فؤاد المهندس" أنه كان من الممكن أن يقدم دورًا ثانٍ في أحد الأفلام، وهو بطل في فيلم آخر في نفس الوقت؛ فقد قدَّم شخصية "عسكراني" في فيلم "صاحب الجلالة" أمام "فريد شوقي"، وقدَّم دورًا ثانٍ أمام "رشدي أباظة" و"سعاد حسني" في فيلم "جناب السفير".

 وتجربته التليفزيونية أيضـًا غنية، وله واحدة من أنجح التجارب ألا وهو مسلسل "عيون"، مع القديرة "سناء جميل"، والذي قدَّم معه "يونس شلبي" واحدًا من أنجح أدواره.

 كان "فؤاد المهندس" يمتعنا يوميـًا كل صباح بـ"كلمتين وبس"، مع كلمات "أحمد بهجت" وإخراج "مجدي سليمان"، والذي ظل يقدمها حتى آواخر أيامه.

 تزوج "فؤاد المهندس" مرتين؛ مرة من أم أبنائه، والثانية من الفنانة "شويكار"، والتي قدَّمت معه أنجح الأدوار، وقدما في الحياة واحدة من أنجح قصص الحب، والتي استمرت رغم طلاقهما.

 كانت ظروف وملابسات وفاته ميلو درامية، فلم تمنحه الأقدار النهاية السعيدة على قدر ما منحنا من ضحكات، فلقد أُصيب بالإكتئاب بعد وفاة صديقه "مدبولي"، وتلميذته "سناء يونس"، بالإضافة إلى حريق منزله، والذي احترق معه طاقم أسنانه أيضـًا، مما أصابه باكتئاب شديد تُوفيَّ بعدها في 16 سبتمبر 2006م.

 وإن كان تُوفيَّ فإن أصداء الضحكات التي يطلقها الكبار والأطفال من مشاهدة أعماله تقول إن السيرة أطول من العُمر الحقيقي.