بصقوا في وجهه

عزيز سمعان دعيم

بقلم: عزيز سمعان دعيم
لقد ذاق الرب يسوع شتى أنواع العذاب والآلام الجسدية والنفسية، ولعل من أصعب الآلام وأمرَّها تأثيرًا على النفس هي آلالام البصق.
يذكر الكتاب المقدس موقفين تحمل فيهما الرب يسوع آلالام البصق من مجموعتين مختلفتين، وهو صامت لا يجاوب ولا يحاول صدّ البصق بيده، ولا حتى مسحها بأنامله المقدسة؛ لأنه صمم أن يحتمل عقابنا بكل أنواع الآلام وإلى الثمالة...
● يخبرنا "الكتاب المقدس" إنه بعدما أُسلم يسوع لعسكر وجمع رئيس الكهنة، أتوا به إلى قيافا رئيس الكهنة ليحاكم، وسمع يسوع في محاكمته كلام زور كثير، ولكنه لم يجب بكلمة (متى 26: 62) إلى أن سأله رئيس الكهنة: "أستحلفُك بالله الحي أن تقول لنا: "هل أنت المسيح ابن الله؟" (متى 26: 63) عندها أجاب يسوع بالإيجاب قائلاً: "أنت قلت! وأيضًا أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة وآتيًا على سحاب السماء". (متى 26: 63) عندها أعلن رئيس الكهنة أن يسوع قد جدّف وحكموا عليه بأنه "مستوجب الموت"... ولكي يكمل شرهم نقرأ قول الكتاب: "حينئذ بصقوا في وجهه ..." (متى 26: 67).

ونقرأ عن ذات الموقف، تسجيل الوحي، في إنجيل مرقس: "فابتدأ قوم يبصقون عليه... " (مرقس 14: 65).
● وبعد ذلك نراه في محكمة الوالي الروماني بيلاطس، وبعد أن أعلن بيلاطس ثلاث مرات إنه لم يجد علة في يسوع (لوقا 23: 4، 14، 22)، أسلمه للصلب لأجل الشغب في الشعب الذي كان يطالب بموته بتحريض رؤساء الكهنة، عندها أخذه عسكر الوالي الروماني وجمعوا عليه كل الكتيبة (الجنود الرومان- الأمم)، وأهانوه وتمادوا في الإهانة كما يقول البشير متى: "... وبصقوا عليه..." (متى 27: 30).       فهنا نرى الأمم واليهود اجتمعوا معًا (راجع مزمور 2) على الرب يسوع؛ "وبصقوا في وجهه".

دلالة البصق على الوجه
البصق على الوجه، يعني الاحتقار الشديد وهو من أشد أنواع الاحتقار والإهانة، وقد يعتبر الإنسان العادي حياته رخيصة أمام الدفاع عن هذه الإهانة. فعادةً يكون البصق على الأرض، إما من يبصق في وجه إنسان فقد يقصد بذلك أن وجهه يشبه الأرض التي يبصق عليها وتداس. ونرى دلالة على ذلك في عدة شواهد كتابية:  ●(عدد 12: 14) عندما تكلمت مريم أخت موسى وهارون على زوجة موسى بالشر فغضب الرب جدًا عليها وعاقب مريم بالبرص. فصرخ موسى إلى الرب ليشفيها هي وهارون من خطيتهما ويشفي مريم من برصها... وكان جواب الرب لموسى قائلاً: "ولو بصق أبوها بصقًا في وجهها، أما كانت تخجل سبعة أيام؟" (عدد 12: 14) فقد قارن الرب عار البصق بعار البرص الذي يشير إلى الخطية التي تعدي الآخرين؛ فكما أن الابن يخجل من أبوه إذا بصق في وجهه ويمتنع عن رؤيته ورؤية الناس لمدة زمنية حتى ينسى الاحتقار والإهانة والغضب، هكذا بالنسبة للبرص، فقد قارن الرب برص مريم الذي هو علامة لعنة بعار البصق.

● وكذلك في (تثنية 25: 9) نقرأ عن عقاب الرجل الذي يخالف وصية الرب بأن يقيم نسلاً لأخيه المتوفي دون أن يترك وراءه نسلاً، وذلك بأن يتزوج امرأة أخيه المتوفي، فكان عقاب كل من يرفض ذلك بأن: "تتقدم امرأة أخيه إليه أمام أعين الشيوخ، وتخلع نعله من رجله، وتبصق في وجهه، وتصرخ وتقول: هكذا يفعل بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه" (تثنية 25: 9). وذلك علامة تحقير وإهانة أمام شيوخ المدينة، الشعب والمجتمع، وقد وضع الرب هذا العقاب القاسي، لعله يلزم الشعب بتتميم وصيته ليتحاشوا مثل هذه الإهانة.
● وقد وصف أيوب (أيوب 17: 6 و30: 10) هذا النوع من التحقير الذي أصابه وشكا منه بكل ألم ويأس فقال: "أوقفني مثلاً للشعوب، وصرت للبصق في الوجه." (أيوب 17: 6). وكذلك "يكرهونني. يبتعدون عني، وأمام وجهي لم يمسكوا عن البسق." (أيوب 30: 10)
ومن هذه الناحية، نستطيع أن نرى أيوب رمزًا للرب المسيح الذي يبصق في وجهه. كذلك نرى في هذه الآيات نبوات بآلالام البصق التي تنبأ بها الكتاب لتكون في قائمة آلالام الرب. فما أعظم الآلام النفسية التي ترافق هذه الإهانة! فقبل أن يصل البصاق إلى الوجه، تصل الإهانة الشديدة ويخترق سهم الاحتقار أعماق النفس، وكل هذا العار أصاب شخص الرب يسوع.

وقد يسأل البعض: "لماذا رضى بعار البصق؟ ولماذا جعل الآب هذا العار أحد أنواع الآلام في قائمة آلالام الرب؟" تتميمًا للنبوة: لقد كان لازمًا على المسيح أن يحتمل كل الإهانات والعار عقابًا على خطايانا وذلك برضاه.
ولقد سجل هذا النوع من الآلام والعار في قائمة النبوات التي وجب أن تتم في شخص المسيا؛ حيث يقول إشعياء النبي في ذلك: "بذلت ظهري للضاربين، وخدي للناتفين. وجهي لم أستر عن العار والبصق." (إشعياء 50: 6) فنرى أنه وجب على المسيح أن يتحمل آلالام البصق وعاره دون أن يقاوم، فلم يستر وجهه بيده عن عار البصق، ولم يزيحه لجهة أخرى كي لا يصبه البصاق.
ولا شك أن عار البصق هو أحد الآلام التي تشمله قائمة النبوة الواردة في إشعياء: "محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن، وكمستر عنه وجوهنا، محتقر فلم نعتد به." (إشعياء 53: 3)

وقد علم شخص الرب يسوع بعلمه غير المحدود بكل ما سيصادفه من إهانات وآلالام وعار ومنها عار البصق، وأخبر بذلك تلاميذه. وعلم أنه سيسلم للصلب وسيبصق عليه، فيذكر البشير لوقا ثلاث مرات على الأقل يخبر فيها الرب بشكل صريح تلاميذه بأنه سيصلب ويتألم، وفي المرة الثالثة يذكر بشكل خاص عار البصق. وهذه الشواهد نجدها بشكل متسلسل في الإنجيل بحسب البشير:
1- مرقس 8: 31 "وابتدأ يعلمهم أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيرًا، ويُرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، ويقتل، وبعد ثلاثة أيام يقوم."
2- مرقس 9: 31 "لأنه كان يعلم تلاميذه ويقول لهم: "إن ابن الإنسان يُسلم إلى أيدي الناس فيقتلونه. وبعد أن يُقتل يقوم في اليوم الثالث."
3- مرقس 10: 33-34 "ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن الإنسان يُسلم إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت، ويُسلمونه إلى الأمم، فيهزأون به ويجلدونه ويتفلون عليه ويقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم". 
وكذلك يقول البشير لوقا في هذا الصدد: لو18: 31-33 "وأخذ الاثني عشر وقال لهم: "ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وسيتم كل ما هو مكتوب بالأنبياء عن ابن الإنسان، لأنه يُسلم إلى الأمم، ويستهزأ به، ويُشتم ويُتفل عليه...".

من هو هذا الذي تحمل البصق دون أن يقاوم فهو الرب المبارك: "الأبرع جمالاً من بني البشر." (مزمور 45: 2)، العالم بكل شيء، الذي علم بموته وبصلبه وبكل ما كان عليه أن يتحمل من آلام (مرقس 8: 31، 31:9، 10: 33-34). هو الرب الإله الذي خلق الإنسان، إذ جبله ترابًا من الارض: (تكوين 2: 7و8) "وجبل الرب الإله آدم ترابًا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفسًا حية. وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقًا، ووضع هناك آدم الذي جبله." هو ابن الله وابن الإنسان الذي جال في الأرض يشفي كل مرض وضعف في الشعب ويصنع المعجزات، فيتفل ويضع طينًا على عيني الأعمى فيرى، ويتفل ويضع طينًا على لسان الأصم الأعقد، فيتكلم وتنفتح أذناه، فكان بذلك يجدد خليقته ويشير إلى أنه هو ذاته القديم الأيام، الكائن قبل إبراهيم، والخالق كل شيء بكلمة قدرته، والذي يجدد خليقته.
1. يتفل فينحل لسان الأعقد وتنفتح أذني الأصم (مرقس 7: 32-35) "وجاءوا إليه بأصم أعقد، وطلبوا اليه أن يضع يده عليه. فأخذه من بين الجمع على ناحية، ووضع أصابعه في أذنيه وتفل ولمس لسانه، ورفع نظره نحو السماء، وأنّ وقال: "إفثا". أي انفتح. وللوقت انفتحت أذناه، وانحل رباط لسانه، وتكلم مستقيمًا."
 2. يتفل فتنفتح عيني الأعمى (مرقس 8: 22-25) "وجاء إلى بيت صيدا، فقدموا إليه أعمى وطلبوا إليه أن يلمسه، فأخذ بيد الأعمى وأخرجه إلى خارج القرية، وتفل في عينيه، ووضع يديه عليه وسأله: هل أبصر شيئًا؟ فتطلع وقال: "أُبصر الناس كأشجار يمشون". ثم وضع يده أيضًا على عينيه، وجعله يتطلع. فعاد صحيحًا وأبصر كل إنسان جليًا".

3. يتفل فيبصر الأعمى منذ ولادته (يوحنا 9: 6 و7) "قال هذا وتفل على الأرض وصنع من التفل طينًا وطلى عيني الأعمى. وقال له: "اذهب اغتسل في بركة سلوام" الذي تفسيره: مُرسل، فمضى واغتسل وأتى بصيرًا."
جابل البشرية يواجه شر الانسان وهو عالم بأفكار قلب الإنسان وبما سيلاقيه من اضطهاد، فيواجهه بالخير، "فقد ظُلم أما هو فتذلل..." (إشعياء 53:7) لعن فبارك، ضربوه وصلبوه فسامح، بصقوا عليه، أما هو فتفل ليشفي، يحيي ويجدد جبلته، ما أشر الجبلة التي تتكبر على جابلها، ما أفظع كبرياء وخطية الجبلة التي تبصق في وجه جابلها، الذي خلقها، وجددها وحفظها... لماذا إذًا! لماذا تحمل جابل البشرية أن يبصق عليه من قبل جبلته الضعيفة؟ لماذا رضى أن يتفل عليه للاحتقار؟ بتفلة نعمته فك لسان الأعقد وفتح أذنيه، وفتح أعين العميان؟ لماذا!؟ الجواب: لأجلنا نحن، بل لأجلي أنا (ليقل كل واحد). تحمل عقاب خطيتي فذاقها وهضمها وامتصها حتى آخر قطرة فيها، وبما فيها البصق والاحتقار.
(إشعياء 53: 4و5) "لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها... وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه، وبحُبره شفينا." تحمل كل هذا لأجلنا... تحمل كل هذا لأجلي...