ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

فرح من غير معازيم!

مفيد فوزي | 2015-12-26 07:30:41

(1)
لا أزال أذكر تلك الحادثة القابعة فى ذاكرتى منذ عشرات السنين، كنت وقتها صبياً أشجع فريق بلدتى بنى سويف، وأنظر بكثير من الحب والاحترام لكابتن الفريق حمدى رضوان، كان زماناً بريئاً، لم يعرف فيه نجوم الكرة الملايين ولا حتى أمسكوا بالآلاف، وكان نادى بنى سويف الرياضى هو مسرح المتعة لعشاق الساحرة المستديرة، وكنت أحشر نفسى وسط مئات من جمهور الترسو وهم الأعلى صوتاً والأكثر إخلاصاً، مازلت أتذكر فريقاً زائراً لبنى سويف تصاحبه عشرات اللوريات تحمل مريديه ومشجعيه، وخرج الفريق الزائر مهزوماً قبل أن تعلن صفارة الحكم نهاية الشوط الأول، وإذا بمفاجأة ثقيلة جاءت كالإعصار وحدثت ربما لأول مرة، ألقى مشجعو الفريق الزائر الزجاجات الفارغة على جمهور بنى سويف، ورد الأخير بالكراسى والدكك وتعالت الصيحات وصراخ الأطفال، وهرولت البنات يغادرن من باب النادى خوفاً وهلعاً، بينما احتميت بمظلة خشبية فى مدرجات الدرجة الأولى.

كان الجو العام مخيفاً، فلم تألف المدينة المسالمة مثل هذا العنف، وفجأة والأحداث فى أرض المباراة مشتعلة، ظهر حكمدار البلد المهاب اللواء الحدأة فى وسط الملعب. كان يقف وحده وكانت تسبقه سمعته فى الشدة، فصمت الملعب مشدود الأعصاب وتوقف العراك تماماً، كان لايزال اللواء الحدأة فى الملعب الذى شهد عنفاً لم تعرفه بنى سويف من قبل، واتخذ الرجل قراراً لحظياً، حيث استدعى حكم المباراة ورؤساء الفرقتين من الإداريين وقرر إلغاء المباراة، بعد أن تم القبض على المشاغبين من الطرفين، وأطلق الحكم صافرة نهاية المباراة وعادت اللوريات تحمل مشجعيها بمن فيهم الجرحى والمصابون وانتهت الليلة المريبة، وبعد أسبوع كامل أعلن عن عودة المباراة، والجديد هو تواجد عناصر الهجانة فوق الجمال يحرسون المباراة.

ومعروف لجيلى شدة بأس الهجانة وقسوتهم والتعامل بالكرابيج السودانى ذات الشهرة، وظهر اللواء الحدأة فى المقصورة التى تضم كبار القوم، وسارت المباراة سيراً طبيعياً حتى لوحظ أن مدرجات الدرجة الثالثة اكتفوا بالفرجة دون تعليقاتهم العفوية، أتذكر أنه كان من بين ضيوف المقصورة الفنانة الكبيرة سويفية النشأة زوزو ماضى وحظيت بتصفيق وقور، لكن المباراة لم يتخللها أى عنف لفظى، وقال معلق المباراة أشرف الشجيع إن الجماهير كانت عيناً على أحداث المباراة وعيناً على عناصر الهجانة بالبشرة السمراء، حيث لا يفارق ذراع كل منهم الكرباج السودانى ذائع الصيت.

(2)
كانت الرياضة - رغم حوادث فردية تافهة - بهدف المنافسة، نظيفة المقاصد والغايات، كانت رياضة للرياضة فقط، لم تكن للرياضة تلك القوة والتمكن والتأثير مثلما هو الآن، صارت الرياضة دولة داخل الدولة، لم يحظ بها لا الفن ولا الأدب، تفرعت الرياضة وتشعبت وأصبح لدولة الكباتن رأى فى كل الأمور، وأصبح هناك أندية تمثل رأسمالية الرياضة، وأندية تشترى «اللعيبة» بآلاف الدولارات، ودخل نجوم الكرة أكبر وأخطر ساحة مزاد، حيث أصبح للنجوم «تسعيرة» عند الشراء أو البيع، وولد فى تلك الأثناء اختراع جديد ظهر بعد الثورة وترعرع فى زمن الإخوان حتى صار مخيفاً ومرعباً ويحسب له الشعب ألف حساب ألا وهو «الألتراس» بصنوفه وتشكيلاته واللحظات التى لعب أدواراً فيها بالسلب، وكانت مباراة بورسعيد الأشهر فى تاريخ الكرة المصرية على امتداد تاريخها من حيث من سقطوا مضرجين بدمائهم حتى الوداع.

فقد كانت مذبحة بورسعيد تعلن خطر الألتراس وربما كانت السبب المباشر فى مباريات كروية دون جمهور، حتى الآن مازال للألتراس مهما كانت الأسماء والانتماءات سلطة الدم فى الملاعب، ولم يحدث التفسير النفسى أو الاجتماعى لهذه الطائفة التى أصبحت من سمات الكرة المصرية بعد الثورة، ولايزال وجود الألتراس يهدد المباريات ويسك على جمهورها، وقد حاول كثيرون منهم وزراء وشخصيات عامة ورؤساء أندية إعادة جماهير الكرة إلى المدرجات ولكنهم فى اللحظة الأخيرة عدلوا عن الفكرة وخشوا بصراحة شديدة المغامرة، وفى الذاكرة حادث القرن «الأسود» فى الرياضة «مذبحة بورسعيد»، فمازال شبح ضحايا المذبحة فى رأس المهتمين بإعادة جماهير الكرة إلى الملاعب.

أما الأمن فقد كان طرفاً فى اجتماعات عديدة تخص الموضوع ذاته ولكن الأمن كان دائماً يلقى بالكرة فى ملعب فرسان الرياضة ورؤساء الأندية، وكان يميل دائماً إلى «تجميد» الموضوع وكأنه لم يكن، وفى لحظة من اللحظات اقترب حلم عودة جماهير الملاعب إلى مدرجاتها، لولا أن «العقل الأمنى» حسب حساباته وتقديراته واتخذ قراراً بالرفض.

من الغريب أن شاشات الرياضة -على اختلاف قنواتها- لم تلجأ ذات مرة إلى مناقشة هذه الظاهرة البغيضة، الألتراس ربما لتفهم أسرار وكنه غموضها، ومع ذلك أذاعت مباريات الكرة دون جمهور تماماً مثل «فرح من غير معازيم» وربما اعتاد الناس على عادة إذاعة المباريات دون جماهير، وما عاد الموضوع شاغلاً للناس أو للرياضيين، لابد من الإشارة إلى أن أمن مصر قد استقر ودوره الوطنى محمود ومشكور لكنى - وهذا رأى عابر - أشعر بأن عدم عودة الجماهير للمدرجات محل قولان، فأنا أقيس أمن مصر باستتبابه على كل الأصعدة فى كل مكان صحرا أو بركان، فلاتزال فى اللوحة الفضية لأمن مصر «نقطة سوداء» هى غياب السيطرة المطلقة على الألتراس الذى مازلت أجهل وجهه الإيجابى فى نظر البعض «!»، ولكنى أعرف جيداً - كما يعلم كل مصرى - وجهه السيئ والمدمر.

(3)
اختلف الزمن كثيراً وكثيراً وما عاد ظهور اللواء الحدأة فى أرض الملعب ومعه جنود الهجانة السمر الأشداء بكرابيجهم السودانى، قادراً على وقف الألتراس لنشاطه، فيعود الناس إلى الملاعب يمارسون متعة غابت طويلاً، واكتفى الناس بملاعب الشاشات والسلام، الدنيا تغيرت والمصالح كبرت وتوحشت، وللعلم الألتراس «Ultras»، كلمة لاتينية تعنى المتطرفين وتظهر فى صورة من مشجعى الفرق الرياضية، ولكن آثارها مشبعة بالدم والخوف والحريق، إنها جرح الكرة المصرية وسيظل ينزف حتى إشعار آخر.

(4)
لقد كان من الممكن أن ينتهى المقال عند السطور السابقة لولا أن نقاطاً حائرة كانت تريد أن تستقر فى حضن حروف! وقد استجبت لضراعة الحروف.

1- صحيح أننا نعيش الآن فى مناخ أمنى أفضل من أمس وأمس الأول ولكن هناك «مربعاً» مغلقاً يحمل فى طياته لغزه وأسراره وهو الألتراس الذى حكم على جماهير الكرة أن تهجر الملاعب وتفضّل البيوت لأنها أكثر أمناً، فهل الألتراس «إرهاب» جديد يتحدى الأمن؟!

2- لماذا لم يقترب وزراء الرياضة من سر الألتراس ويقوموا بتفكيك هذه الكتلة المحتشدة لإشعال المباريات، أم ترى الألتراس يتحدى السلطة؟

3- طالما حلمت بأن تتحول طاقة الألتراس إلى طاقة إيجابية لتشجيع الفرق الرياضية بدلاً من مشاعر التدمير، وكنت أتمنى جهداً مضاعفاً من الفضائيات الرياضية تفك به شفرة الألتراس «النائم فى الدرة» إلى حين مباراة تنتهى بالعويل، هذه هى كرة القدم التى صارت فى أقدام الألتراس كرة من لهب.
نقلا عن المصري اليوم

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com