ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

الثقافة الأخرى.. عدو أم صديق؟

حسن حنفي | 2015-07-30 14:13:10

يجرى البحث فى الإعلام فى الآونة الأخيرة ليس فقط عن الثقافة فى ذاتها بل أيضا عن علاقاتها بالدين والسياسة. والأقل بحثا عن وظيفتها فى التبرير أو النقد، فى اعتبارها جزءا من الدين أم فى استقلالها المنهجى، فى الجدل والرفض المتبادل أم فى الحوار، فى وجهة النظر الأخرى أم فى الاتجاه المعاكس الذى يرفض بعضه البعض ولا لقاء بينهما إلا السب وربما الضرب. فكل ثقافة تحتوى على الأقل على نقيضين، الرأى ونقيضه. فإذا ما وصل أنصار ثقافة للحكم تجعل مهمتها الرئيسية التخلص من الثقافة الأخرى، وتطهير الدولة منها، برامج إعلامية أو كتبا مدرسية. ويتم ذلك عن طريق التخلص منها أو إعدامها وأحيانا إحراقها وكأننا نعيش عصر ابن رشد وإحراق الكتب الفلسفية. ويتم ذلك على التوالى. إذا كان فريق فى السلطة اعتبر الآخر خصما. عاداه بكل أشكال المعاداة. وإذا تحولت السلطة منه إلى الفريق الآخر عادى الفريق الأول انتقاما. نفعل بكم كما فعلتم بنا على اختلاف الدرجة والتى قد تصل إلى درجة القتال بالسلاح وإراقة الدماء كما يحدث فى العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا ومصر والسودان إلى حد أصغر. فتسير الثقافة على ساق واحدة، فإذا تعبت انتقلت إلى الساق الأخرى تسير عليها. ترى العالم بعين واحدة ثم تغلقها كى ترى العالم بالعين الأخرى. تتنفس برئة واحدة ثم تخنقها كى تتنفس وتعيش بالرئة الأخرى.

ويمكن تفسير الأنبياء على هذا النحو منذ موسى حتى محمد، ومن هنا نشأ الصراع بين فريقين، الإسلاميين والعلمانيين، السلفيين والمدنيين فى كل أرجاء الوطن العربى. الأول يتنفس برئة واحدة، الإسلام. والثانى يتنفس برئة واحدة أيضا، العلمانية أو الحداثة. هى قصة نوح وابنه. الأول فضّل قانون الدنو. والثانى فضل قانون العلو. وفى قصة موسى وفرعون. الأول فضّل المعجزات، شق البحر. والثانى فضّل العلم فالماء لا ينقسم. وفى قصة يوسف وإخوته، بقوانين البيع والشراء. فإذا ما وصلت إحدى الثقافتين إلى السلطة وجمعت بين السلطة والثقافة فإنها تنتقم من الثقافة الأخرى لدرجة إيصال أصحابها إلى السجون. ويقاوم التيار المدنى الدينى ربما عن حق دون أن يدرى أنه يقع فى أيدى التيار العسكرى. فهو يفضل الجيش على قريش دون أن يدرى أنه فى يوم ما قد يتحالف الجيش وقريش عليه، فلا فرق بين الاستبداد الدينى والاستبداد العسكرى، ولا فرق بين مقاصد الشريعة والقيم المدنية. فمقاصد الشريعة التى من أجلها وضعت الشريعة ابتداء هى الحفاظ على الحياة ضد الموت والانتحار، والعقل ضد الجهل والأمية، والدين أى المعرفة ضد النسبية والشك، والعرض أى الشرف والكرامة الإنسانية، والمال أى الثروة الوطنية. وهى نفس القيم المدنية التى طالما أعلن عنها فى المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. وانتهكت فى الوطن العربى حتى بدا لا إنسانيا مناقضا لحقوق الإنسان. وهى قيم إنسانية عامة. لا إسلامية ولا علمانية. لا تنتمى إلى تيار بعينه. ومن ثم كان الجمع بينها ثقافيا وسياسيا ممكنا. تبغى تحقيق المصالح العامة، وإقلال المفاسد، وتحكيم العقل الطبيعى. وهما وجهتا نظر تظهران فى كل حضارة مثل الأشاعرة والمعتزلة فى الحضارة الإسلامية، والمثالية والواقعية فى الحضارة الغربية. والموضوع هو الموضوع «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأَرْضِ». وكل حضارة بها هذان الفريقان، يتبادلان، يتحاوران، وأحيانا يتخاصمان ولكن لا يتقاتلان. والثقافة لا تخاصم. ولا تطهر نفسها من الرفاق. فهى تحاور الخصوم باستقلال تام دون أن تكون خادمة للسياسة. لقد كان التاريخ الثقافى يعانى من الثقافة الخادمة للدين. والآن أصبحت خادمة للسياسة. فحلت السياسة محل الدين. والحكم ثورة لا انقلابا حتى لو كان ثورة على ثورة أو ثورة على ثورتين، يكون الحكم انقلابا. ويظل خائفا من الانقلاب المضاد. ويكون ثورة تستند إلى الشعب. ويخاف أيضا من الحركات الشعبية المضادة. ويكون توافقا أو ائتلافا يمثل جميع القوى الوطنية فتثبت دعائمه. ولا يخشى شيئا. فالقادة هم الشعب، والشعب هو القادة.

إن انقسام الحياة الثقافية إلى تيارين متقاتلين، إسلاميين وعلمانيين، سلفيين وحداثيين، قدماء ومحدثين، هى من أحد الأسباب الرئيسية للاستبداد. هى هذه الثنائيات التى تملأ حياتنا الثقافية، طرف فوق الآخر، خير وشر، ذكر وأنثى، حق وباطل، صدق وكذب. والعلاقة بين الطرفين فيها علاقة تفاضل، الأول فوق الثانى وليس فقط علاقة تكامل. وهى علاقة رأسية وليست علاقة أفقية، بين الأعلى والأدنى، وليس بين الأمام والخلف، علاقة علو وليس علاقة تقدم. لذلك من السهل أن يسيطر الأول على الثانى فتنشأ لدينا مشكلة عدم تساوى الأطراف، سيادة الرجل على المرأة، العظم على اللحم «قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا»، الرأس على القدم، الروح على البدن. ينشأ الاستبداد كتصور، سيادة طرف واحد على العالم كما يفعل «سى السيد» مع «أمينة» فى الثلاثية. كما ينشأ مجتمع القسوة والثأر والانتقام. ونجحت الثورة الأخيرة فى 2011 فى البداية. ثم كان مقتلها عندما حكم فريق واحد باسم الدين. ثم حكم فريق آخر باسم الجيش. كل فريق كان يقمع الآخر دون أن يعلم أنه رفيق. يعتبره عدوا دون أن يعلم أنه صديق. وانتقلنا من الاستبداد الدينى إلى الاستبداد العسكرى غارقين فى الاستبداد التاريخى الخالى من الثورات من أجل الحرية فى الوعى السياسى.

الثقافة الأخرى ليست هى الثقافة التى يجب التطهير منها ولا هى الاتجاه المعاكس الذى لا يلتقى مع الاتجاه الأول بل هى الثقافة البديلة، الثقافة الأخرى، لا تصل إلى حد النقيض، لا كالفيروس كنقيض للدواء من أجل الشفاء. لقد استطاع هيجل تحويل عقيدة التثليث، الأب والابن والروح القدس، إلى منهج جدلى، الموضوع، نقيض الموضوع، مركب الموضوع. وهكذا يمكن تفسير العلاقة بين اليهودية والمسيحية والإسلام فى تطورها الجدلى التاريخى، اليهودية الموضوع، دين الشريعة، والمسيحية نقيض الموضوع، دين الروح، والإسلام مركب الموضوع، دين العدل والشريعة فى المجتمع.

العلاج إذن تاريخى طويل على مستوى التصورات. فلا يتغير شىء فى الواقع إن لم يتغير فى الفكر أولا. فالتصورات هى التى تحكم وليس النظم السياسية. لذلك يسهل فى مجتمعاتنا الاتهام بالكفر والإلحاد إذا مس التغيير التصورات أى العقائد. لذلك تجب ثورة ثقافية أولا، أى تغيير فى تصورات العالم فهى التى تحكم بطريق غير مباشر والتى تحدد معايير السلوك. لذلك فتح الإسلام باب الاجتهاد على مصراعيه رافضا التقليد. فلكل عصر اجتهاده بعد إجماعه. والواقع له أولويته على الفكر «ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن». فالأولوية للواقع على النص كما يدل على ذلك «أسباب النزول»، و«الناسخ والمنسوخ». القدسية لمصالح المسلمين المتغيرة وليس للنص الثابت فى شكله، المتغير فى مضمونه. ومن ثم تتجاوز القضية تجديد الخطاب الدينى إلى تجديد الفكر الدينى.
نقلا عن المصري اليوم

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com