في زخم الاحتفالات «باليوم العالمى للمرأة» و«عيد الأم» و«مهرجان سينما المرأة»، أتذكر حينما وقفت النجمة «نجلاء فتحى» قبل اعتزالها الأضواء ليلة ختام مهرجان «الإسكندرية» (1989)، وهى رئيسة لجنة التحكيم المحلية، صارخة: «ارحمونا من أفلام الفساد والجريمة التي سيطرت على السينما المصرية.. ليست كل امرأة في مصر عاهرة، وليس كل رجل تاجر مخدرات، وليس كل حى في مدننا بؤرة للجريمة.. نساء مصر فقيرات مكافحات يتحملن الإهانة والعذاب لتربية الأولاد، ورجال مصر عبروا بنا المحنة، وجاءوا بانتصار أكتوبر المجيد.. كم من امرأة تعيش بشرف رغم الفقر ولا تنحرف.. وكم من أم مصرية تعانى وتكافح لكى تربى أولادها وتعول أسرتها».

 
ومن هنا يمكننا أن ندرك بسهولة أن انحيازها لتقديم سينما المرأة كان انحيازًا لتقديم شخصيتها الدرامية بصورة موضوعية تركز فيها على الجوانب الإنسانية، فتدافع عن حقوقها في حياة كريمة، وتحلم بالمساواة التامة مع الرجل، وتحتفى في الوقت نفسه بمكتسباتها، التي حققتها من خلال أجيال متلاحقة ورائدات أشعلن مصابيح النهضة، وجاهدن جهادًا مستميتًا لتحرير المرأة وإلغاء كافة أشكال التمييز ضدها.
 
ومن هنا فإنه من الإجحاف في رأيى أن نحسر السينما في رؤيتها المتخلفة للمرأة فقط في ظل تنامى التيارات الوهابية والاجتياح الأصولى للمجتمع فقط.. ذلك أن السينما المصرية من بدايتها وهى لا تقدم في السواد الأعظم من أفلامها المختلفة لشخصية المرأة إلا باعتبارها راقصة لعوبًا تنصب شباكها لاصطياد ثرى أحمق تستولى على أمواله أو عاهرة تغرى بمفاتنها شابًّا فتضيع مستقبله الواعد أو تتسبب في دخوله السجن.. أو خادمة فاجرة تسرق زوج مخدومتها، وتشرد أطفالها وهكذا.. في تضاؤل واضح جدًّا لنماذج من شخصيات نسائية فاضلة وفاعلة وإيجابية تدعو إلى التبجيل والاحترام.. لكن في عصور التراجع الحضارى وتفشى التيارات المتشددة، تسيطر تلك النماذج الرديئة وتتطرف في انحطاط، يساندها جمهور من شباب عشوائى شتام بذىء يلوك لغة وضيعة ويتداولها في جهل منتشر ووقاحة مستشرية. ومن ثَمَّ فإن المتابع لأفلام تلك الفنانة الطموح الواعية «نجلاء فتحى» يلمح بوضوح أنها منذ التسعينيات تحولت في توظيف أدواتها الإبداعية لتجسيد شخصيات غير نمطية ذات أبعاد اجتماعية وسياسية وتتجاوز تكرار الأفلام القديمة لتعبر عن مناطق مختلفة من المشاعر والأحاسيس خارج الانفعالات المحفوظة والمرتبطة بمحدودية الطرح، فبدَت أشد رغبة في الالتحام بقضايا المجتمع وهموم الناس.. حتى إذا ما جاءت نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات تكون نجلاء قد وصلت إلى أعلى مراحل النضج الفنى في تاريخ إبداعها، وهى المرحلة التي أصبحت تؤدى فيها أدوارًا مركبة وصعبة تعبر معظمها عن أحوال نساء تعيسات من قاع المجتمع، الذي اتسعت فيه الفجوة بين الأغنياء والفقراء، في ظل تمايز طبقى وظلم اجتماعى بيِّن، ومن هذه الأفلام «عفوًا أيها القانون» و«أحلام هند وكاميليا» و«لعدم كفاية الأدلة» و«اللص» و«سوبرماركت» و«الجراج».
 
استوحيت قصة فيلم «اللص»، الذي قامت ببطولته «نجلاء فتحى» مع فاروق الفيشاوى ووحيد سيف.. وكتبت له السيناريو والحوار، وأخرجه «سعد عرفة» (1990)، من حادثة حقيقية نشرتها الصحف وقتها عن شاب عاطل يتعرف على مكوجى مدمن بحى شعبى يساعده على استئجار غرفة بسطوح عمارة بالحى تجاور حجرته التي يقطن بها مع زوجته الجميلة البائسة وأطفاله الثلاثة.. ما يلبث المكوجى «سرسق» أن يجر الشاب إلى الانحراف، ويزين له الاشتراك معه في سرقة السيارات، في الوقت الذي تنجذب الزوجة عزيزة التي تعانى قسوة «سرسق»، الذي كثيرًا ما يشتبك معها ويداوم على ضربها ضربًا مبرحًا، ويستولى على حصاد يومها من خدمة البيوت.. وتعانى الإحساس الطاغى من الحرمان الذي تجده في شخص المعدم اليتيم «عمر»، وتنشأ بينهما قصة حب، وتهرع إليه دومًا للاستنجاد به، فيتدخل لحمايتها من اعتداء زوجها عليها، وترى فيه نموذجًا للشهامة والحنان.. ينجح «عمر» بمفرده في سرقة حقيبة بها عدة ملايين موضوعة في حقيبة سيارة مركونة بشارع هادئ، ويهرع بها إلى السطوح ليكتشف أمره «سرسق»، ويشتبك معه، وينازعه على اقتسام المبلغ معه.. يرفض، ويضربه، وتسانده «عزيزة»، التي تطلب منه أن يخلصها من «سرسق» ليتزوجا.. بينما يكتشف مالك السيارة سرقة الحقيبة، لكنه يتراجع عن إبلاغ قسم الشرطة بالسرقة خوفًا من افتضاح أمره إذا ما سُئل عن مصدر هذا المال.. «سرسق» يوافق على تطليق «عزيزة»، لكنه يرفض أن يتنازل عن حضانة أولاده.. ويرى في تمسكه هذا فرصة للمساومة على التخلى عنهم في مقابل مبلغ مادى كبير.. يوافق «عمر»، ويسرع بالفرار مع عزيزة وأبنائها، تاركًا السطوح إلى مسكن بمنطقة معزولة، ويتزوجان، ويحاول بكل ما أوتى من مقدرة وعطاء سخى ماديًّا وعاطفيًّا أن يعوضها سنين حياتها البائسة.. يُغرقها بالهدايا والملابس والنزهات هي وأطفالها، ويُجرى عملية جراحية لأحد أبنائها في عين مصابة بسبب اعتداء سابق لأبيه عليه بالضرب، ويعاهدها على التوبة، وبالفعل يشترى سيارة، ويستخدمها كتاكسى، ويزداد تعلق عزيزة به، وتشعر معه بسعادة غامرة.. يرتاد معها ملهى ليليًّا، وينفق ببذخ، مما يثير شك أحد العاملين، الذي ما يلبث أن يبلغ الشرطة.. يتم القبض عليه، ويعترف بالسرقة.. لكنه يواجههم بحقيقة أنه إذا كان هو سارقًا فعليهم أيضًا أن يبحثوا عن اللص الأكبر، الذي لم يبلغ عن الحقيبة المسروقة.. بينما عزيزة المنهارة تؤكد له بحرارة أنها سوف تنتظره حتى يقضى عقوبته ويخرج من محبسه، بعد أن يتم الحكم عليه بالسجن، فهو حبيبها، الذي لن تتخلى عنه أبدًا.
 
شدتنى تفاصيل الحادثة والمفارقة التي تتمثل في سرقة «عمر» أموالًا استطاع بها أن ينقذ امرأة بائسة من العوز والحاجة والانحراف، ويعوضها عن سنوات القهر والحرمان هي وأولادها، فأسعدها، وهيأ لها حياة كريمة في كنفه، وقام بأعمال خيرة كثيرة، وأطعم جوعى، وأنقذ أخًا لها من التشرد، وجعله يعمل على سيارته الأجرة مقابل أجر مُجْزٍ، كما انتشل أمها من السكن في العشوائيات في شقتهما الجديدة.. وحينما يقبض عليه في الملهى في مواجهة وكيل النيابة.. يوضح لهم أنهم أولى بهم أن يحاكموا اللص الكبير، الذي رفض أن يبلغ عن المال الحرام الذي استولى عليه بوسيلة أخرى.. إنه ليس سوى لص صغير، مثل «روبين هود»، يسرق ليُطعم الفقراء.
 
لعبت نجلاء فتحى في الفيلم دورًا من أفضل أدوارها بروعة تقمصها وإحساسها بمفردات سيدة على الهامش معيلة تهفو إلى حياة أكثر أمنًا ورحمة وإنسانية، وحينما تجد حبًّا ينتشلها من معاناتها اليومية تتشبث به، وتنفجر ينابيع عطائها وإخلاصها له.
نقلا المصرى اليوم