القمص يوحنا نصيف

الروحانيّة الأرثوذكسيّة هي منهج عبادة وسلوك..
 تتميّز الروحانيّة الأُرثوذكسيّة بالاعتدال والتوازن والتكامُل في كلّ الممارسات الروحيّة.. وسنأخُذ بنعمة المسيح في هذا المقال سبعة أمثلة لشرح ذلك:
 
 1- التوازن والتكامُل بين النعمة الإلهيّة مع الجهاد الشخصي..
 فلا الجهاد الإنساني بمفرده يستطيع أن يخلِّص الإنسان، ولا النعمة الإلهيّة يمكنها أن تقوم بالدور وحدها دون الإرادة الإنسانيّة والتفاعُل الحَيّ والجهاد القانوني (2تي2) من الإنسان.. فبينما تنحرف بعض الطوائف يمينًا أو يسارًا، بالاتكال على النعمة فقط أو على المجهودات البشريّة وتكرار الصلوات فقط، تؤكِّد الأرثوذكسية على أهميّة التآزُر synergy (بحسب ق. كليمنضس السكندري)، والشركة بين العمل الإلهي والعمل البشري من أجل خلاص الإنسان.
 
  2- التوزان بين الطمأنينة والثقة في الخلاص
والتمتُّع بالملكوت كأبناء وورثة من ناحية، مع السهر والحرص من ناحية أخرى، حتّى لا يُسرَق إكليلنا أو يُمحَى اسمنا من سِفر الحياة..
 
الحياة الروحيّة هي مسيرة العُمر كلّه، وليست فقط لحظة.. فهناك بعض الطوائف التي تركِّز على نقطة البداية فقط، وكأنها هي نقطة النهاية.. ولكن الحقيقة أنّ هناك طريق طويل لابد من عبوره بنجاح، وليس كل مَن بدأوا حسنًا أكملوا الطريق للنهاية.. فهناك مَن بدأوا بالروح وأكملوا بالجسد (غل3:3)، وهناك مَن تحرّروا من عبودية فرعون، وجازوا في معموديّة البحر الأحمر، وأكلوا طعامًا روحيًّا نازلاً من السماء وشربوا شرابًا روحيًّا.. ومع ذلك هلكوا في القفر، ولم يصِلوا إلى أرض الموعِد (1كو10)..
 
    إذن نقطة البداية ليست هي أبدًا نقطة النهاية، بل هناك مسيرة بها أخطار وحروب وتحتاج إلى مؤازرة النعمة مع اليقظة والجهاد والمثابرة والإيمان العامل بالمحبّة (غل6:5) حتى يَتِمّ خلاصنا، كما يعلّمنا القدّيس بولس الرسول: "تمِّموا خلاصكم بخوف ورعدة" (في12:2).. "لأننا قد صِرنا شركاء المسيح إن تمسّكنا ببداءة الثِّقة ثابتة إلى النهاية" (عب14:3).
 
  3- التوازُن بين العقل والقلب..
 التعقُّل مهمّ وأساسي في الإيمان الأُرثوذُكسي، مع المشاعر الروحيّة والعاطفة المملوءة بمحبّة المسيح.. أمّا الانفعالات العاطفيّة غير المُتعقِّلة فهي كفيلة بأن تطوِّح بالإنسان في انحرافات خطيرة بعيدة عن روح المسيح وعن منهج الكنيسة الذي استلمته من السيّد المسيح والآباء الرُسل..
 الطريق الأُرثوذُكسي طريق متوازن يعطي كرامة للفهم مع المشاعِر، للعقل مع العاطفة.. لا توجَد فيه انفعالات صاخبة أو عواطف غير منضبطة.. بل انضباط بفرح في كلّ الممارسات الروحيّة..
 
 4- التوازُن في العلاقة مع كلمة الله وفهمها..
 الروحانيّة الأثوذكسيّة لا تستخدم آية واحدة فقط من الكتاب المقدّس لكي تبني عليها عقيدةً أو مفهومًا إيمانيًّا.. بل تستوعِب الكتاب ككلّ، وتفهم الآيات من خلال السياق التاريخي، بالإضافة إلى ما جاء في التقليد الكنسي وأقوال الآباء الأولين.. فلا يمكن فصل الأسفار المقدّسة عن التراث الآبائي والليتورجي والتاريخي للكنيسة..
 نحن نقبل الكتاب المقدّس مُعتَمَدًا من الكنيسة، مشروحًا من آبائها، حيًّا في صلواتها وعبادتها، مُعاشًا من قدِّيسيها..
 
5- التوازُن بين روح الصلاة والمعرفة الدراسيّة
 في المنهج الأُرثوذُكسي تمتزج الدراسة اللاهوتية مع الصلاة، ويتآلَف العِلم مع عِشرة المسيح والعلاقة الخاصّة به، ويتكامل المخدع مع المذبح والتلمذة لتعليم الآباء..
الدراسة وحدها لا تكفي، بل يلزم أن يكون حُبّ يسوع وتمجيد اسمه والتمتُّع بالشركة معه، هو الأساس لأيّ دراسة لاهوتية..
 المسيحيّة لا يمكن تذوُّقها فقط عن طريق الكُتُب، لكن لابد أيضًا من شركة حُب مع الثالوث القدوس في عبادة صادقة، وتسبيح وشكر دائم، وتوبة حَيَّة مُستمرّة..!
    العلاقة مع الله هي علاقة اختباريّة، وليست مجرّد معرفة فلسفيّة نظريّة.. ليس أنّ الإنسان يحفظ مجموعة آيات ويجادل بها.. أو يتحدّث عن إيمانه بمنطق جيّد بعيدًا عن السلوك بالمحبّة، وبالقداسة، وبالنسك من أجل ضبط الجسد، وتطويعه لخدمة خلاصنا وخلاص الآخرين..
 
 6- التوازُن بين علاقتنا بالله وعلاقتنا بالكنيسة جسد المسيح..
    فكما قال ق. كبريانوس (أسقف قرطاجنّة - قرن 3) لا يستطيع الإنسان أن يتّخِذ الله له أبًا ما لم تكُن الكنيسة له أُمًّا.. فلا يُمكن للإنسان أن يكون ابنًا لله ما لم يولَد من الماء والروح من بطن أمِّه الكنيسة [المعموديّة]، ويرضع من لبنها غير الغاش [التعاليم والعبادة]، ويقتات دائمًا على خُبز الحياة من مائدتها الروحيّة [المذبح المقدّس].. فالكنيسة أم ولود تلد لله أبناءً للملكوت.. لذلك قال القديس كبريانوس: "لا خلاص خارج الكنيسة"..
  لذلك الروحانيّة الأرثوذكسية تُؤّكِد على أنّ الدعوة للإيمان بالمسيح تتضمّن أيضًا الدخول في عضويّة الكنيسة التي هي جسد المسيح.. وعلاقتنا بالمسيح تكون من خلال علاقة شخصيّة مع الإنجيل وأيضًا علاقة شخصيّة مع الكنيسة.. فكما نلتقي بالمسيح في قراءتنا الخاصّة للإنجيل، نلتقي به أيضًا في الكنيسة، ونتمتّع به من خلال الأسرار المقدّسة، والدورة الليتورجيّة الكنسيّة..
 
  7- التوازُن بين محبّة الله ومحبّة القريب
المحبّة هي تكميل الناموس، وهي أساس البنيان..
من يثبت في المحبّة يثبت في الله.. مَن لا يحبّ أخاه الذي لا يبصره كيف يحبّ الله الذي لا يبصره؟!
 في الروحانيّة الأرثوذكسيّة، تأتي المحبّة قبل كلّ شيء، وفوق كلّ شيء.. وكلّما امتلأ القلب بمحبّة المسيح فإنّه يشتهي خلاص العالم كلّه، ويصلّي بكلّ قلبه لتوبة الجميع وتمتّعهم بالحياة الأبديّة في المسيح.. ويضع نفسه في يديّ المسيح لكي يستخدمه لبنيان وسلام وتعزية وخلاص نفوس كثيرة..
    أحد أهمّ أهداف الجهاد الأرثوذكسي، أن نشحن قلوبنا باستمرار بمحبّة الله، فنستطيع أن نحبّ الآخرين، ونغسل أقدامهم، ونحتمل ضعفاتهم، وندعوهم أن يتذوقوا معنا محبّة المسيح التي تحصرنا وتغمرنا..