عاطف بشاي
«مصطفى حسين» (7- 3- 1935/ 16- 8- 2014) هو آخر العنقود من الدرر الثمينة لفنون الأضاحيك فى تاريخها الطويل، والذى تتجسد إبداعاته ببراعة لافتة ومهارة ساطعة من خلال رسوماته الكاريكاتيرية الساخرة بريشة رشيقة وطريفة وموحية.. عميقة المحتوى.. تعكس اشتباكات مؤثرة مع الواقع الاجتماعى والسياسى فى بلادنا فى مسيرة رائعة لسنوات طويلة ممتدة كان يتجاوز فيها خطوطًا حمراء ويقفز فوق أسوار عالية ضاربًا- ومعه «أحمد رجب»، الساخر الأعظم- محظورات عاتية وأسلاكًا شائكة، فكوّنا معًا ثنائيًّا تاريخيًّا شهيرًا جسورًا معارضًا غاضبًا ثائرًا يتصدى لسلبيات وخطايا مجتمع.. وعورات شخصيات يخلعان عنها أقنعة زائفة وأردية متدنية.

لأن الساخرين الكبار من المبدعين تحرق أعصابهم تناقضات الواقع وعيوب البشر، التى يستمدون منها مادة سخريتهم، فيصنعون من المفارقة- التى هى العنصر الرئيسى فى فنون الكوميديا بأشكالها المختلفة- مادتهم الفنية وعالمهم الإبداعى، فيصبح من المنطقى أنك حينما تلتقى بالساخر، سواء كان أديبًا أو رسامًا أو شاعرًا أو سينمائيًّا نجمًا أو كاتبًا للسيناريو أو مخرجًا.. تجده متجهمًا قانطًا شاردًا حزينًا مكتئبًا.. تعلو التكشيرة ملامح وجهه المهموم، فيُحدثك بعصبية وتوتر ونفاد صبر.. وليس سرًّا أن أغلب الممثلين والممثلات الكوميديانات تسيطر عليهم أعراض الاكتئاب.. وليس غريبًا أن يشنق النجم العالمى «روبن وليامز» نفسه، بعد سنوات طويلة كان فيها يملأ الدنيا بهجة ومرحًا وسعادة من خلال أفلامه الجميلة، التى تبعث على الأمل والتفاؤل ومعانقة الحياة والفرح بها.

أما «مصطفى حسين» فقد كان يلقاك بابتسامة عريضة صافية ووجه بشوش مرحب وأناقة بادية، فهو لا يفتقر مثل معظم الفنانين والمثقفين إلى لياقة وذوق الاستقبال والتوديع والترحيب، ويُشعرك أن منزلتك لديه غالية وعزيزة، حتى لو كان هذا هو اللقاء الأول بينك وبينه، ويشملك بحنوه واهتمامه وكأنك طفله العزيز، الذى يربت عليه مهدئًا.. ومطمئنًا ضد غدر الأيام وغموض الطريق.. وأنت لا تضبطه أبدًا شاكيًا أو متذمرًا أو لاعنًا رغم أن معاناته الطويلة القاسية مع المرض كانت رهيبة، ورحل على أثرها.

إنه يُذكرك بشخصية «أندريه»، الطبيب النفسى المعالج، فى رواية «تشيكوف» البديعة (عنبر رقم 6)، حيث كانت تدور حوارات فلسفية طويلة بينه وبين «إيفان»، المريض بعصاب الوسواس القهرى.. نزيل مستشفى الأمراض العقلية.. «أندريه» يحاول بكل جهده أن يخفف عن «إيفان» آلامه النفسية، فيلجأ إلى الإيحاء له بأن الألم النفسى ليس سوى تصور حى عن الألم، وعلى الإنسان أن يبذل كل إرادته لكى يغير هذا التصور ويكف عن الشكوى عندئذ سوف يختفى الألم.. فالإنسان السوى يتميز بأنه يسمو فوق المعاناة ويتكيف مع منغصات هذا الواقع.. فالتكيف هو علامة الصحة النفسية.

إن «مصطفى حسين» هو التجسيد الحى للشخصية التى يتحدث عنها «أندريه»، يتعالى على الألم ويتجاوزه.. يذهب فى رحلات علاج مضنية إلى «أمريكا» يتألم هناك فى صمت وترفع.. فإذا ما عاد عانق الحياة وواصل رحلته الإبداعية.. يرسم ويسخر ويدعوك إلى الضحك والتأمل والتفكير فى مستقبل الأيام.. لذلك، لم تسقط منه الريشة أبدًا حتى اليوم الأخير كأنه يتحدى الموت.. ويؤكد له ولنا أنه سيواصل نزاله فى شجاعة وجسارة حتى النفَس الأخير.. فهو يملك تساميًا روحيًّا عظيمًا.. ليس أدَلَّ على ذلك من أنى حينما هاتفته لأطمئن عليه فى فترة من فترات مرضه، التى تزامنت مع مرض العزيز الكبير «أحمد رجب»، قال لى بالحرف الواحد: «إنى فعلًا أتألم من أوجاع مرض قاتل لا يُبْقِى ولا يَذَر.. لكنى قلق أكثر وأتألم أكثر لمرض أحمد رجب».
■ ■ ■

هاتفته، قبل رحلته الأخيرة إلى «أمريكا»، لكى أعرض عليه فكرة معاودة إنتاج حلقات جديدة من «الست كوم» الشهير «ناس وناس»، التى حولت فيها الشخصيات التى أبدعها مع «أحمد رجب» إلى نبض على الشاشة الصغيرة، مستخدمًا النكات المتصلة بهم وتجسيدها من خلال أحداث ومواقف درامية كوميدية تمثل نوعًا جديدًا من الدراما، التى يمكن أن نطلق عليها الكاريكاتير الدرامى أو الدراما الكاريكاتورية، وكانت الفكرة مركزة حول الإجابة عن سؤال حتمى، هو: ما مصير شخصيات «كمبورة» و«الكحيت» و«عزيز بيه الأليت» و«قاسم السماوى» و«عبده مشتاق» والمطرب «على الجعورة» و«عبدالروتين» وغيرهم بعد قيام ثورتى 25 يناير و30 يونيو؟!.. أسعدته جدًّا الفكرة.. وتوالت اللقاءات بيننا، وكان حماسه حماس شاب يبدأ مشواره الفنى.. وحينما تطرق الأمر إلى الحديث عن الأجر.. طلب لنفسه ولأحمد رجب مبلغًا فوجئت بتواضعه.. فهو لا يتناسب مع مكانته الأدبية الرفيعة.. ولا مكانة أحمد رجب السامقة.. هذا على الرغم من تكاليف العلاج الباهظة.. فقد كان متواضعًا وساميًا.
أرأيتم رجلًا جميلًا أكثر من هذا الفنان العظيم، رحمه الله؟!.
نقلا عن المصرى اليوم