بقلم: أندرو اشعياء
اختبرت بعد سنين قليلة أن المشي في الصحراء ليس للمتعة ولا للتنزه، بل لغلق الحواس ودفعها في مسيرة الإتحاد بالواحد من خلال صلوات وتضرعات ومحاسبة للنفس.. المشي فرصة نادرة ليصفو فيها الراهب، وينفض عن جلباب أفكاره ما تشبث فيه من غبار خلال اليوم..

وفي تلك الليلة خرجت ماشيًا كعادة كل يوم.. تارة أرتل وتارة اصلي وتارة أركع.. أتذكر في اثناء المشي أن مسيرة الحياة الروحية من المهم ألا تكون سريعة بعجرفة أو بطيئة بإنحلال مثل المشي تمامًا.. في تلك الليلة صليت من أجل ما تمر بيه الكنيسة إذ كان ما يُثار من جهتها مثير للعجب

ودون إطالة، في أثناء عودتي في تلك الليلة تقابلت مع أحد الإخوة الذي بادر بتحية السلام، وسريعًا كمَن لم يستطع كتمان أمرًا يهيج في صدره من شدة الفرح حتى لفظه قائلًا: «لقد عرفت أن البابا أثناسيوس عاد إلى كرسيه بعد نفيه إلى رومية.. لقد إنطلق من رومية إلى أنطاكية حيث تقابل مع الإمبراطور قسطنطيوس الذي أعلن براءته، ثم مضى إلى أورشليم ومنها إلى مصر»

ثم عاد ليسترسل: «أتدرى كم غاب من سنوات في نفيه الأخير هذا؟ له 9 تسع سنوات بعيدًا عن شعبه.. يا لها من مشاعر مرارة تجيش في صدر الراعي عندما يغيب قسرًا عن شعبه»

لم تبدو الأمور هكذا ويبدوا أن هذا الأخ لم يعرف ما انتهت إليه اخر الأحداث، ولكنني في حزن بليغ ربت على كتفيه قائلًا: «صلي لأجل الكنيسة»
-    «ماذا بك؟ لماذا لم تبدو عليك مشاعر البهجة؟»

-    «ألم تدري ما حدث؟! لقد قُتل الإمبراطور قسطنس على يد القائد ماجنتيوس.. وها أبينا البطريريك مُتهم في هذا!»

كانت هذه الكلمات له أثر بليغ على مسامعي حتى أنني وكأن أذني ثقُلَ عليها الكلام فانتهرت دوله لأعود وأسال عن ما قال..

-    «هذا ما حدث.. ويقولون أن أبينا كان معاونًا لماجنتيوس القائد، بل أن أوريليا أوسابيا زوجة الإمبراطور قسطنطيوس متأكدة من هذا الكلام!»

-    «يا أبي.. إني أسمع مرارًا أن الأريوسيين والأوسابيوسيين يفترون بإشاعات كثيرة.. فكيف يكون هذا؟!»

-    «اليك الأصعب.. إن ابينا أنطوني غاضب جدًا في مغارته من تلميذه البطريرك!»

تركت هذا الأخ، ولكن يبدو أن صدى القصة  كان يدوي في كل بقاع البرية.. حتى أنني سمعت أن الإمبراطور قسطنطيوس طالب بمقابلة البابا البطريرك! والبعض قال أن الإمبراطور طلب مقابلته ليستبعده منفيًا وربما دون عودة.

في الحقيقة، بعدما دخلت مخدعي وجدت أننا في إحتياج أن نفهم الأمر كله من أبينا بنفسه، وبالفعل طالبنا أن نجلس معه، ولا أنس كم كان هادئًا ومهيبًا ورصينًا في كلماته.. تحدث معنا في تلك الليلة أن التشكيل والإضطراب والبلبلة وإثارة الشوشرة ما هي إلا تعريفات للـ «سجس» ومن أعراض السجس كثرة الحوارات وزحام الأفكار حول أمر ما، والمشكلة تتفاقم إن كان متلقي هذه الحوارات حساسًا، كما أن مِن الممكن أن يتسبب شيخًا كبيرًا في سجس شُبان صِغار مثلما يتسبب شاب صغير في سجس إخوته..

واسترسل في حديثه العذب أن السجس هو المُتهم الأول في هشاشة أي مجمع أو اي كنيسة، وبسببه تتعطل مسيرة الإنسان في جهاده الروحي.. وختم حديثه أنه يعزم على النزول للاسكندرية ليعاون تلميذه المُضطهَد ضد الأريوسيين والأوسابيوسيين وافتراءاتهم ومكائدهم.

وعندما هممنا بأخذ بركته دق جرس المنبه لأستيقظ على موعد تسبحة نصف الليل، فقمت مُتعزيًا جدًا تلك الليلة، وسريعًا كتبت في كراسة الملاحظات عنوان بسيط أبحث فيه بعد القداس ألا وهو «الهراطقة ومساعيهم في إثارة السجس والشككوك»