إسحق إبراهيم
لا تزال أصداء انتزاع الطفل "ش" من الأسرة التي تبنته خلال سنواته الأربع مستمرة، في ظل التعاطف الإنساني المتزايد مع الزوجين وتوسلاتهما لعودة الطفل، وهو ما يلقي الضوء مجددًا على أزمة  قوانين الأحوال الشخصية، والمرجعية الدينية لها، وتعامل مؤسسات الدولة مع الأديان.  

أحد أوجه الأزمة هو الموقف من التبني، حيث إنه أحد المبادئ والقيم الأساسية في المسيحية؛ الفداء وعمل الخلاص قائم على فكرة تبني الله للإنسان روحيًا، كما أن يوسف النجار تبنى الطفل يسوع، وتبنت ابنة فرعون موسى النبي.

هذا الموقف انعكس على لوائح الأحوال الشخصية للطوائف المسيحية التي اشتملت على إجراءات لتنظيم التبني. لائحة 1938 للأقباط الأرثوذكس تضمنت شروطًا للتبني (الفصل الثالث المواد 110-123)، منها عدم جواز التبني إلا إذا وجدت أسباب تبرره، وكانت تعود منه فائدة على المتبنَّى، يخول المتبني أن يلقب المتبنَّى وذلك بإضافة لقب إلى اسمه الأصلي، وأن يكون المتبني تجاوز سن الأربعين وألا يكون عنده أولاد ولا فروع شرعيون وقت التبني وأن يكون حسن السمعة، وأن يكون أكبر سنًا من المتبنَّى بـ15 سنة على الأقل.

    مارس الأقباط حق التبني دون تضيق حتى بداية السبعينيات، إلى أن عُدلت المادة الثانية من الدستور

كما حظرت اللائحة الزواج بين المتبنَّى والمتبني وفروع هذا الأخير، وبين المتبنَّى وأولاد المتبني الذين رُزقهم بعد التبني، وبين الأولاد الذين تبناهم شخص واحد، كذلك بين المتبنَّى وزوج المتبني، وكذلك بين المتبني وزوج المتبنَّى. ومنعت اللائحة أن يرث المتبنَّى تركة المتبني من غير وصية.  

مارس الأقباط حق التبني دون تضيق حتى بداية السبعينيات، إلى أن عُدلت المادة الثانية من الدستور المصري وأصبحت الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، وهي الشريعة التي تحرِّم التبني. ثم صدر قانون الطفل المصرى رقم 12 لسنة 1996، والمعدّل بالقانون 126 لسنة 2008، متضمنًا حظر التبني.

تنص المادة الرابعة: للطفل الحق في نسبه إلى والديه الشرعيين والتمتع برعايتهم… وعلى الدولة أن توفر رعاية بديلة لكل طفل حرم من رعاية أسرته، ويُحظر التبني.

ومن ثمَّ توقفت مؤسسات الدولة عن إصدار الموافقات على طلبات التبني للمسيحيين، بحجة أنه يتعارض مع النظام العام، رغم أن بعض أحكام محكمة النقض قالت إن المجتمع المصري يضم مسلمين وغير مسلمين، وأنه لا حرج في ترك المسيحيين وما يدينون فيما يتعلق بالأحوال الشخصية، وأن هذا لا يعتبر مخالفًا للنظام العام. وليس أدل على ذلك من حظر تعدد الزوجات بالنسبة للمسيحيين.
مسؤولية الكنيسة

تتحمل الكنيسة جزءًا كبيرًا من المسؤولية عن هذا الوضع، فهى اتخذت موقفًا متشددًا من أحكام الطلاق والزواج الثاني على سند أن الزواج نظام ديني، بينما تغاضت عن تعطيل تطبيق لائحة 38 فيما يخص التبني. وفي حوار للأنبا بولا، أسقف طنطا والمسؤول عن ملف الأحوال الشخصية بالكنيسة الأرثوذكسية لفترة طويلة، قال إن مرجعية الأزهر يقبلها المسيحي قبل المسلم!

واسترضاءً ومغازلةً للأزهر ومؤسسات الدولة السياسية، تبرعت الكنيسة بحذف الجزء الخاص بالتبني في مشروع القانون الموحد للأسرة المسيحية الذي قدمته ليكون بديلًا عن اللوائح الحالية، رغم أن موقفها حاليًا يفترض بأنه أقوى لسببين؛ الأول وجود المادة الثالثة من الدستور "مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظِّمة لأحوالهم الشخصية، وشؤونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية"، وبالتالي الشريعة المسيحية أصبحت جزءًا من النظام العام فيما يخص الأحوال الشخصية ومنها التبني.

أما السبب الثاني فهو نظام الاحتضان الذي تطبقه وزارة التضامن الاجتماعي، وهو شبيه بالتبني، وبالتالي يمكن النقاش حول الشروط والضمانات اللازمة والتي تضمن حقوق الطفل المتبنَّى أولًا، وتمنع أية شبهة أن يكون هناك تلاعب أو إتجار في البشر.

نأتي إلى الوجه الثاني لهذه الأزمة، والمتعلق بديانة الطفل "ش"، فقد غيرت الحكومة ممثلة في وزارة التضامن الاجتماعي ومصلحة الأحوال المدنية اسمه إلى "ي" ودونت ديانته مسلمًا، على سند من المادة الثانية من الدستور "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع".

وطبقًا للشريعة يولد الإنسان مسلمًا على الفطرة ثم يهودنه أو ينصرنه أبواه، ذلك رغم عدم وجود مادة قانونية واضحة وصريحة كمرجعية في هذا الشأن.

لا يمكن قراءة هذا الإجراء بعيدًا عن نظرة الدولة نفسها لدورها وطريقة تعاملها مع الأديان والعقائد التي يعتنقها مواطنيها. إذ حددت في دستورها أن الإسلام هو دين الدولة، وهو ما انعكس على رؤية مؤسسات الدولة السياسية، قبل الدينية، لدورها ولطريقة تعاملها مع الأديان والمعتقدات الموجودة بها.

بما يعني إدارة شؤون هذا الدين من خلال المؤسسات الرسمية: الأزهر والأوقاف ودار الإفتاء، ثم الالتزام بتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية من ناحية وتراتبية الأديان من ناحية أخرى.

    كما أن الكنيسة التي التزمت الصمت وكأن الأمر لا يعنيها، عليها أن تراجع موقفها في موضوع التبني وتنحاز لتعاليمها

وهو ما يتضح في إصرار الحكومة على تضمين الأوراق الرسمية لديانة الشخص، ورفض المطالب بإلغائها من الأوراق وبقائها بداخل السجلات الرسمية فقط، فما أهمية وضع ديانة طفل مولود في شهادة ميلاده، وهو لم يصل إلى سن التمييز؟ هل يؤثر وجود الديانة مثلًا على عدد التطعيمات؟ أو الرعاية الصحية المقدمة له؟

حتى الآن لا يوجد ما يكذّب رواية أن الطفل وُجد داخل كنيسة وقام بتربيته زوجان مسيحيان، فلماذا الإسراع إلى تغيير اسمه وديانته لخلق حالة جديدة يصعب التراجع عنها فيما بعد؟ ما حدث يرسخ لواقع مفاده أن كل مواطن مصري مسلم، إلا إذا قدم أوراق رسمية تثبت عكس ذلك.
المصلحة الفضلى

في هذا السياق، يثار تساؤل حول المصلحة الفضلي للطفل. نصت المادة الثالثة من اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل على أنه "في جميع الإجراءات المتعلقة بالأطفال في مؤسسات الرعاية الاجتماعية العامة والخاصة أو المحاكم القانونية أو السلطات الإدارية أو الهيئات التشريعية، يولى الاعتبار الأول لمصالح الطفل الفضلى".

وتحمي الاتفاقية حق الطفل في الحياة الأسرية بالمفهوم الواسع الذي يشمل الوالدَين البيولوجيين أو المتبنين أو الكفيلين (المادة 16). وعند تقييم مصالح الطفل وتحديدها، ينبغي مراعاة حماية وسلامة الطفل والرعاية العاطفية له، ومدى توفير الحاجات الأساسية من التعليم، النفقة، السكن، والحفاظ على كرامته  الإنسانية، وصولًا لإدماجه في المجتمع بتوفير كل الضروريات.

بطبيعة الحال، وضع الطفل "ش" في دور رعاية لا يصب في مصلحته، على العكس يحرمه من أسرة مستعدة لتوفير كل سبل الرعاية والسلامة. كان يمكن لوزارة التضامن الاجتماعي تسليم الطفل للأسرة التي تولت تربيته، مع وضع الإجراءات اللازمة لضمان التزامها بشروط الكفالة، إذا كان موضوع التبني يحتاج تدخلات تشريعية وسياسية من مستويات عليا.

كما أن الكنيسة التي التزمت الصمت التام، وكأن الأمر لا يعنيها، عليها أن تراجع موقفها في موضوع التبني، وتنحاز لتعاليمها، خصوًصا أن التشريعات الدولية بشأن حقوق الطفل تبيح التبني، الذي هو ضرورة من منطق المحبة والعطاء والرحمة.
نقلا عن المنصة