محمود عابدين

تبارى ملوك الفراعنة في تخليد قصص حبهم مستعينين بناصية الفن والعمارة، فكتبوا الخلود لملكاتهم بعمائر كُرست لهن، ونقوش لا حصر لها، أبرزت تألقهن في شتى أرجاء مصر، وظل الحب عند المصريين القدماء محفزا لابتكار أساطير عديدة وأشعار وأدبيات بلورت صورة أقرب لمشاعر المصري القديم بمختلف المفردات والصور البلاغية، مجسدًا لها بكل ما ملكه من إمكانات مادية.

وأسهمت مكانة المرأة المصرية قديما في تهيئة مناخ أدبي، واجتماعي أثرى حضارة لم تفرق بين رجل وامرأة، بل تأسست على روح التعاون بينهما، والتي تتضح من مطالعة النقوش والنصوص الأدبية وصور وتماثيل للمرأة في مختلف أدوارها، ربّة أو ملكة أو واحدة من عامة الشعب، قال المصريون قديما عن الحب إنه "هبة السماء تسكبه الطبيعة في كأس الحياة لتلطف مذاقها المرير"، فكانوا أول من تفاخر بعاطفة الحب وخلدوها في عالم الأحياء على جدران معابدهم وأحجارهم، وفي "قصور الأبدية" (مقابرهم) ليحيا الجميع بالحب في العالم الآخر.

كما توافرت لملوك مصر القديمة إمكانات مادية أسهمت في تخليد قصص حبهم، فماذا عن الشعب البسيط الذي لا يملك سوى الحب يقدمه للحبيب؟، لقد كانت قصائد الشعر الأسلوب المحبب لأفراد الشعب بغية التعبير عن العواطف، وكان الحب بالنسبة لهم أشبه بـ "مخلوق إلهي كالكون نفسه"، لذا لم يفرق الأدب المصري القديم بين عاشق وعاشقة، بل أعطى لكل منهما مساحة رحبة للتعبير عن الحب بحرية غير مقيدة.

وتشهد قصائد كاملة على فرح لقاء المحبوبين ببعضهما، إذ يرى العاشق حبيبته كأنها الطبيعة وملذاتها الطيبة، توقع في شركها، مثل صائدة الطيور، كل من يستسلم لها، كهذا المقتطف لنص ترجمته لالويت إلى الفرنسية في دراستها "نصوص مقدسة ونصوص دنيوية":

- "ثغر حبيبتي برعم زهرة لوتس، نهدها ثمرة طماطم، جبينها حلقة من خشب السنط، وأنا أوزة برية، أتطلع بنظراتي إلى شعرها المسترسل، كأني طُعم في شرك وقعت فيه".

وتغنى المصري القديم بمشاعر العاطفة الجياشة لحبيبته، متغزلا في تفاصيلها الفريدة كما ورد في مقتطف لنص أوردته لالويت في دراسة بعنوان "الأدب المصري القديم":

- "إنها الحبيبة المثلى، ليس كمثلها أحد، إنها أجمل النساء، أنظر! إنها كالنجم المشرق في مطلع سنة سعيدة، إنها متألقة وكاملة، بشرتها نضرة، نظرات عينيها فاتنة، تسحر بكلمات شفتيها، عنقها طويل، ونهدها متفجر، وشعرها من اللازورد الأصلي، ساعدها أروع من الذهب، أناملها أزهار لوتس، لها ساقان هما الأجمل بين كل ما هو جميل فيها، نبيلة المظهر عندما تمشي على الأرض".

وتسجل قصائد أخرى فرحة المرأة بلقاء حبيبها ولحظات الاستمتاع معه بجمال الحدائق كهذا المقتطف:

- "أنا صديقتك الأولى، أنظر! أنا كالبستان الذي زرعته زهورا، بكل أنواع العشب العطر الرقيق. جميل هو المكان الذي أتنزه فيه عندما تكون يدك في يدي، جسدي في غاية الراحة، وقلبي مبتهج لأننا نمشي معا. أنا أحيا بسماع صوتك، وإذا نظرت إليك، فكل نظرة بالنسبة لي أطيب من المأكل والمشرب".

وتحررت المرأة أكثر عند الحديث عن حبها، مستخدمة شتى الصور البلاغية والاستعارية في قصائد شعرية جاءت أكثر حرارة ورغبة:

- "هل سترحل لأنك تريد أن تأكل؟ هل أنت ممن لا هم لهم سوى ملء البطن؟ هل سترحل من أجل الحصول على غطاء؟ لدي غطاء فوق سريري. هل سترحل لأنك ظمآن؟ هذا ثديي، كل ما يفيض من أجلك أنت. حبي لك ينفذ إلى كل جسدي، كما يذوب الملح في الماء، كما يمتزج الماء بالنبيذ".

في هذا السياق، يحضرني ما سبق وقراته عن أول ضحية للعشق عند الفراعنة، تلك الفتاة التي رحلت عن عالمنا قبل 2000 عامًا بمنطقة تونا الجبل بمحافظة المنيا، حيث عثر علي عاشقتنا الجميلة داخل مقبرة تتكون من درج يقود لغرفتين، الأولى خصصت لاستقبال الزائرين، والثانية تقبع بها موميائها الممددة على سرير في هيئة مصرية قديمة، وعلي مدخل القبر كتب والد العاشقة محل حديثنا، واسمها "إيزورا" أشعارا باليونانية، تعتبر من أروع نصوص الرثاء والوداع، ذكر فيها أن "إله النيل ذاته هو الذي اختار مكان قبرها، وقامت بناته وأبنائه ببناء القبر"، لافتا إلى أن "ابنته إيزيدورا لم تعد في حاجة للصلاة أو القرابين، فقد صارت بعد غرقها إلهة تحمل اسم زنبقة النيل".

الطريف في تلك الإعجوبة، أن د. طه حسين (عميد الأدب العربي) أصر على زيارة الحجرة الموجود بها قبر هذه العاشقة، كما أصر "حسين" أن يحرق البخور داخل الغرفة الموجود بها قبر فتاته "إيزيدورا"، بل وطلب من صديقه باريز (مهندس الآثار المصرية) أن يبنى له بيتا عرف باسم "السرايا" ويظهر "حسين وجبره"، وهما جالسان أمام المنزل، ويظهر دوما أمامهما "كتاب لوفيفر"، (العالم الفرنسي) المتخصص في نصوص ومقبرة كاهن جحوتى بتوزيريس، والذي تعد نصوص حكمته ونصائحه الأخلاقية التي حوتها مقبرته من أهم النصوص الأدبية والدينية في مصر القديمة.

تلك النصوص هي التي شكلت لدى "حسين وجبرة" غراما بالنصوص الهرمسية القديمة، وما تحمله من حكمة، وقد ترجمت هذه النصوص إلى اليونانية، ومازالت حتى يومنا هذا مصدرا أساسيا لمن يتبعون فكر "هرميس"، وهو تحوت رب الحكمة في مصر القديمة، بل يمكننا القول بأن تونا الجبل شهدت تكتلا لعلماء المصريات المهتمين بالروحانيات المصرية القديمة، وقد ضم هذا التكتل أو المجموعة عددا آخر من علماء المصريات أمثال ألكسندر فاريل وشفالير دى لوبيش.

كانت علاقة طه حسين بصديقه عالم الآثار "جبرة" علاقة قوية، دفعت بعض الكتاب أن يتصوروا أن زوجة "جبرة" الفرنسية كانت أختا لسوزان زوجة العميد، ويقال أن هذا أمر غير حقيقي، وكان السبب في هذا الاعتقاد هو الصداقة القوية التي ربطت بين الصديقين، كما كان "حسين" خلال عمادته لكلية الآداب مشرفا أيضا على حفائر الجامعة في تونا الجبل، وفي الأشمونين تحت قيادة محرم كمال وفي منطقة الأهرامات تحت قيادة عالمنا المصري الدكتور سليم حسن، وألحق طه حسين تلميذه الوفي والأثري الشهير أحمد بدوي بحفائر تونا الجبل، وهو الذي صار بعد سنوات رئيسا لجامعة القاهرة.
اشتهرت أول ضحية للعشق عالميا، عندما طالب عدد من الخبراء الأثريين بوضع مقبرة "إيزادورا" على خارطة السياحة المحلية والعالمية، تلك الفتاة المصرية التي لم يتجاوز عمرها الـ 18 عاما، وكانت رائعة الجمال، ولدت فى  القرن الثانى قبل الميلاد، أي فى عصر الإمبراطور هادريان،  وتحمل مقبرتها الرقم (1) بين مقابر منطقة تونا الجبل.
و"ايزادورا" ابنة أسرة إغريقية، كانت تعيش بمصر فى مدينة أنتنيوبولس "الشيخ عبادة حالياً" وكان أبوها حاكمًا للإقليم المعروف حالياً بمحافظة المنيا، وكان قصره الكبير موجودا فى مدينة أنتنيوبولس حيث يطل على النيل، وقعت الفتاة الجميلة فى حب الضابط المصرى حابى، الذى كان يعيش على الجانب الغربى من النيل فى مدينة خمنو "الأشمونين حالياً" وكان من قوات الحراسة الموجودة فى المدينة، ومن ثم يعتبرمواطنًا عاديا من أبناء عامة الشعب المصرى ولم يكن من عليه القوم، فلا يوجد أى وجه للمقارنة بينهما من حيث المستوى، رغم ذلك قال الحب كلمته وساقها القدر لتقابل حبيبها.
"ايزادورا" خرجت من مدينتها عبر النهر لتحضر أحد الاحتفالات الخاصة بـ"تحوتى" رمز الحكمة والقلم فى مصر القديمة، وهناك قابلت الضابط حابى فتعلقت به وافتتن بها، حتى أنهما كانا يتقابلان كل يوم وكل ليلة، فكانت تذهب إليه عند البحيرة، وكان يأتى إليها بجوار قصر أبيها.
وبعد ثلاث سنوات من الحب الصادق علم والدها بذلك، فقرر أن يمنع هذا الزواج تطبيقا للعرف السائد آنذاك، أي لا يجب أن ترتبط ابنته - ذات الأصول الإغريقية - بشاب مصرى، فأبلغ الحراس بتتبعها، وأن يمنعوا ذلك الشاب من مقابلتها، وبالفعل كان تضييق الخناق عليها حتى اقتنعت الفتاة العاشقة، وآمنت أن الحياة دون حبيبها لا معنى لها، ثم قررت الانتحار، لكن كان يجب أن تراه للمرة الأخيرة، وبالفعل تمكنت من مغافلة حراستها وذهبت إلى ذات المكان عند البحيرة ولم تخبره بما همت أن تفعله وهو الانتحار، ودعته وذهبت، حتى إذا بلغت منتصف النهر ألقت بنفسها فى أحضان النيل.
وبعد رحيل الفتاة عن دنيا عالمها، ندم والدها بشدة على ما فعله بابنته، فبنى لها مقبرة جميلة وكتب بها مرثيتين، أما حبيبها فكان مخلصًا، ووفيا، حيث قطع على نفسه عهدا بزيارة قبر معشوقته كل ليلة، وظل يُنير لها شمعة داخل مقبرته في كل زيارة حتى لا تبقى روحها وحيدة بحسب معتقداته.
ومن داخل مقبرة الوزير رع موزا وزوجته مايا الأسرة 18، نقرأ ما كتبه هذا الوزير لزوجته: "حبي لك ينفذ إلى كل جسدي، كما يذوب الملح في الماء، كما يمتزج الماء بالنبيذ"، كلمات تنقل أصداء قلب عاشق من مصر القديمة، يجيش بعاطفة للحبيب، يفصلنا عنه ما يربو على ثلاثة آلاف عام، قلب استعان بأعذب ما جادت به لغة عصره في حضارة كانت ثمرة اختمار تجارب إنسانية تأسست على الحب.