فاطمة ناعوت
فى مكتبة «مصر الجديدة»، وأمام الحضور، أمسكَ بالميكروفون وقال: «فاطمة ناعوت، أنت متّهمة بما يلى: متهمة بازدراء كل ما هو قبيح، وكل ما هو شرٌّ، وكل ما هو ظلمٌ. حضرتك متهمة بازدراء كل من يكره ويبغض ولا يعرف الحب. فى عيد ميلادك أقول لك: كل سنة والحب زايد فى قلبك». أمسكتُ الميكروفون وأجبتُ: «أستاذ مفيد فوزى، أُقرُّ وأعترفُ بجميع التهم».

كان ذلك فى صالونى الشهرى: «السلفُ المصرىّ الصالح»، سبتمبر ٢٠١٧، وكان «مفيد فوزى» ضيفَ الشرف. قرّر فريق عملى مفاجأتى بالاحتفال بعيد ميلادى فى الصالون. طفرت موسيقى الميلاد من أرجاء المكتبة، وبانتهائها وجّه الأستاذُ لى تلك الاتهامات، التى كانت واحدة من أجمل هداياى. ولم تكن الهدية الوحيدة التى قدمها لى الإعلامى الكبير. عام ٢٠١٦، حين كنتُ فى منفاى الجميل بمدينة أبوظبى، صدر كتابه: «اسمح لى أسألك»، وأرسلتُ له: « أستاذ مفيد.. عاوزة نسختى تؤنسنى فى غربتى».. وبعد أيام وصلنى الكتاب مع هذه الكلمات المشرقة بخطّه الجميل: «إلى عاشقة الحروف، صديقة الكلمات، رفيقة الوجدان، ابنة الحريّة، سفيرة الحب، حليفة السفر، ساكنة الدروب، ذائقة الشرود، فاطمة بنت ناعوت، مع محبتى، مفيد فوزى».

ألجمتنى الكلماتُ. فتركتُ الكتابَ على المكتب، ونهضتُ إلى الشرفة أنثرُ حبوبَ البُرغل والقمح على سور شرفتى، حتى تتجمّع اليماماتُ والعصافيرُ فى صومعتى الصغيرة، كعادتها كل صبحٍ. حينما يباغتنى الجمالُ أتريّث، ولا أتعجّلُ ارتشافَه دفعةً واحدة. أُقسِّمُ كلَّه إلى جرعاتٍ صغيرة أتناولها على مهلٍ حتى لا تنفدَ قبلما أرتوى من قطْرِ العذوبة الشهىّ. وهذا «مفيد فوزى»، العملاق الذى تتلمذ على أيادى عمالقة، وجالس عمالقة، وحاور عمالقة. فهذا الذى بين يدىّ إذن ليس كتابًا، بل دغلٌ كثيفٌ مشتجرُ الأغصان من عقولٍ فذّة تتحاور وتتعاصفُ وتتعاركُ وتتصالحُ وترتكبُ الخطيئة الكبرى: التفكير. وما أجملَ الحياة حين تسودُ المحبّةُ!. ما أجملَ المحبّة حين تكونُ عونًا لنا على مواجهة الصعاب! رغم أنف الغُربةِ، ورغم أنف السفر والأميال والأنهار والبحار، تصلُنى هدايا السماء من مصرَ إلى حيثُ أكون. المحبةُ غيرُ مرهونةٍ بالجغرافيا، ولا الفرحُ رهينُ المكان.

أما أغلى هداياه لى فكانت وقوفه إلى جوارى، شأن جميع مثقفى مصر والعالم «الحقيقيين» فى القضية الكيدية التى لاحقنى بها «الإخوانُ» بعد إسقاطهم. ساندنى الأستاذ مفيد بقلمه وخرج للإعلام صارخًا: (أنا مخضوض!.. الحكم على فاطمة ناعوت بالسجن، خلانى مخضوض. لو ناعوت اتسجنت هاخاف، وأنا مش عاوز أخاف!!). كان يقصد أنه سيخاف أن يفكر بحرية ويتكلم بحرية.

بمجرد أن تفتح دفتىّ كتابه الثريّ «تسمح لى أسألك»، سوف تسمعُ صخبَ عصوف ذهنية هائلة بين خمسة وعشرين عقلا حرونًا صاخبًا مشاكسًا متمرّدًا. عقلٌ مشاكسٌ، هو عقل المحاوِر «مفيد فوزى»، فى مقابل ثلاثة وعشرين عقلا مشاكسًا، هم عقول المحاورين، وفى الخلفية ثمّةُ عقلُ شاعرٍ رقيقٍ يرقبُ جلساتِ العصف الذهنى ليكتب مقدمة بديعة عنوانها: «درس مفيد فوزى» هو الشاعر الكبير: «فاروق شوشة».

حين أمسكتُ قلمى لأكتب عن الكتاب الصادر عن «دار العين»، دثّرتنى الحَيرةُ.. كيف بوسعى أن أنقل أربعةً وعشرين جبلًا شاهقًا من الألماس بكفّ يدى النحيلة، لأودعَ جواهرَه ودُرَّه وألماساتِه فى جيوب القراء؟ كيف بوسعى أن أختزل أربعةً وعشرين مقالا، فى زاويتى الصغيرة بجريدة «المصرى اليوم»؟ رحتُ أتجوّل بين أفنان وأغصان حدائق الفكر الرفيع فى حواراته مع الكبار متجاوزى الألقاب: مجدى يعقوب، يحيى الرخاوى، الإمام الشعراوى، البابا تواضروس، الفريق مهاب مميش، المستشار الدستورى ماهر سامى، فاروق حسنى، فاتن حمامة، ماجدة الرومى، رشوان توفيق، الموسيقار محمد عبدالوهاب، وزوجته نهلة القدسى، الشاعرة سعاد الصبّاح، مصطفى سويف، على السمّان، على سالم، حمدى رزق، بثينة كامل، السياسيين بطرس غالى، أمين فخرى عبد النور، الرئيس الفلسطينى محمود عباس، وزيرة الثقافة البحرينية مى آل خليفة، ورجل الأعمال أنسى ساويرس.

أشكرك أيها الأستاذ الكبير على ما قدمت لمصر من إعلام نظيف، وعلى إثرائك مكتبتنا العربية وشاشاتنا بالبرامج والحوارات المهمة التى كانت جميعها تصبُّ فى خانة «الوطن» العزيز مصر، التى عشقتَها وقدمت لها عمرك فى مجال الصحافة والإعلام.

شكرًا على الشخصية الوهمية التى غرستها فى قلوبنا وعقولنا: «نادية عابد» التى كتبت باسمها قرابة العقدين حتى تحكى على لسانها همومَ المرأة وعذاباتِها فى مجتمع يقسو عليها.

شكرًا لأنك قدمت لنا صديقتى الجميلة «حنان مفيد فوزى» التى أدعو الله لها بالصبر والاحتساب بعد فقدها صخرتها وصخرتنا. نَمْ ملءَ جفونك عن شواردها، فأنت باقٍ فى ذواكرنا.
نقلا عن المصرى اليوم