محمد أبو الغار
فى الأسبوع الماضى، انتابت المصريين حالة من الحزن على رحيل هشام سليم، الفنان الجميل الذى كانت له شعبية وحضور بين المثقفين المصريين وأبناء الطبقة الوسطى، قبل أن تنقرض لظروف معروفة. وأنا حزنت لوفاة وجه مشرف على الشاشتين الصغيرة والكبيرة، وأذكر له أدواره فى المسلسلات، التى كُتب عليها أن تعيش طوال العمر ويستمر الناس فى مشاهدتها عقودًا، وربما قرونًا قادمة، وذلك قبل التغيرات التى حدثت للفن المصرى. أذكر أدواره فى ليالى الحلمية كابن سليم البدرى ودوره فى الراية البيضا وأرابيسك. وفى السينما بدءًا من إمبراطورية ميم مع فاتن حمامة وحسين كمال، وعودة الابن الضال، وإسكندرية كمان وكمان ليوسف شاهين، وأرض الأحلام لداوود عبدالسيد، ومع عمر الشريف فى الأراجوز. كلها أعمال عظيمة وإنسانية، الفن فيها له اليد العليا، كتابة وتمثيلًا وإخراجًا. وقام هشام سليم بأدوار فى أفلام ومسلسلات فى السنوات الأخيرة، وأعتذر لأنى لم أشاهدها ولم أسمع أن من ضمنها عملًا عظيمًا يستحق المشاهدة. الفن روح وشرارة غامضة تنطلق أحيانًا كالصاروخ لتبدع وهجًا عظيمًا، وأحيانًا يدخل الفن متسللًا فى هدوء إلى مشاعر المشاهد أو القارئ. هذا الوهج الساطع هو موهبة أعطتها الطبيعة للإنسان، وقد تبقى الموهبة عاطلة لا تنتج فنًّا حتى تصدأ وتنطفئ وتنذوى بعيدًا، وعندما تكون الظروف موائمة تنطلق الشعلة لتنتج أدبًا وشعرًا ومسرحًا وسينما وغيرها. الظروف كثيرًا ما تكون غير موائمة، وفى عالمنا الثالث الغلبان المقهور، نادرًا ما تكون الظروف مناسبة تعطى الفرصة للمبدع.

لنعتبر أن ثورة 1919 هى التى فتحت الباب للخروج من الاحتلال البريطانى وبروز القومية المصرية، التى أشعلت الحواس وحركت المواهب فى إنتاج الفنون المختلفة من كتابة ومسرح ثم سينما، حيث حققت الفنون المصرية فى هذه الفترة نجاحًا ملهمًا وعظيمًا وضع مصر كدولة رائدة فى إنتاج الفن فى المنطقة كلها، ولا تزال هناك رواية توفيق الحكيم عودة الروح ثم فى مرحلة لاحقة ثلاثية نجيب محفوظ، ثم ظهور المسرح المصرى العظيم، وبعدها دخلت السينما التى استمرت تسيطر بفنانيها العظام وبالمساحة الكبيرة من الحرية فى معظم الفترات على هذا الفن العظيم فى المنطقة كلها، بل حجزت لها مكانًا فى السينما العالمية ببعض الأفلام المهمة، وبعض الممثلين الكبار مثل عمر الشريف والمخرجين العظام مثل يوسف شاهين وغيره. منذ 1919، ولمدة أكثر من ثلاثة عقود، مرت مصر بفترات من الحرية السياسية أثناء الحكم القصير للوفد وبعض الوزارات الائتلافية، ومرت بفترات قمع سياسى للحريات مثل فترة حكم إسماعيل صدقى وغيره. خلال هذه الفترة كلها لم تقم النظم القمعية بتحطيم الفن أو الاعتداء عليه، وحدثت محاولات لمنع أفلام، مثل العزيمة للمخرج كمال سليم والسوق السوداء لكامل التلمسانى، ولكنها أُنتجت واستمرت كعلامة فى تاريخ السينما.

فى الحقبة الناصرية تأثر الفن تأثيرًا محدودًا لأن النظام السياسى كان واعيًا بأهمية الفن كقوة ناعمة عظيمة لمصر، فاحتضن القامات الكبيرة القادمة من العصر الملكى مثل أم كلثوم وعبدالوهاب، وسمح بحيز كبير من الحرية فى الكتابة الإبداعية، وظهرت نهضة مسرحية عظيمة سقف الحرية فيها أعلى بكثير من سقف الحرية فى الشارع أو الصحف، وبالرغم من تأميم السينما، فإن هامش الحرية أيضًا كان كبيرًا، وأُخرجت أفلام تنتقد النظام. ساعد على حماية الفن من بطش السلطة وجود وزير ثقافة واعٍ وفاهم ومثقف ويثق فيه رئيس الجمهورية.

فى فترة السادات ومبارك عاد الفن بنسبة كبيرة إلى القطاع الخاص، وارتفع سقف الحرية، فأُنتجت مسلسلات وأفلام عظيمة، بجانب الكثير من الإنتاج المتواضع الذى سُمى سينما المقاولات، وهذا أمر طبيعى.

وضع السينما والإنتاج التليفزيونى الآن أصبح فى معظمه من إنتاج الدولة، التى تتحكم فيه بنسبة عظيمة. هناك نقطتان أود أن أبرزهما، الأولى هى أن الفن الحقيقى هو الذى يعيش ويؤثر ويستمر ويكون اقتصاديًّا أربح وأكسب على المدى الطويل. والفن الحقيقى لا بد أن يقدم مشاعر وأحاسيس حقيقية. الفن الحقيقى هو الذى يكون مؤثرًا ويعيش ويتذكره الناس. الفن الدعائى يثير ضجة كبيرة لفترة قصيرة جدًّا، ولكنه لا يترك أثرًا حقيقيًّا مستمرًّا، ولا يحقق عائدًا اقتصاديًّا على المدى الطويل. فى الحرب العالمية الثانية أنتج هتلر، صاحب أكبر ماكينة دعاية فى تاريخ البشرية، عدداً من الأفلام والكتب ولوحات الفنون التشكيلية، وأمريكا أيضًا أنتجت أفلامًا دعائية صرفت عليها مبالغ طائلة بتكنولوجيا متقدمة أثناء حرب فيتنام. كل هذه الأفلام اندثرت، ولم تترك أثرًا، وإنما بقيت فى الذاكرة البشرية أفلام إنسانية فنية صادقة غير مبهرة وقليلة التكاليف، ومازالت تؤثر فى شعوب العالم جميعًا، وحققت أرباحًا اقتصادية هائلة. الفن والفنان يتقدمان بالمنافسة الحرة المتكافئة، وإذا نجحت فكرة وأنتجت فنًّا عظيمًا فإن الكثير من الفنانين سوف يعصرون خلاصة فنهم فى إنتاج شىء جديد منافس. الاحتكار يقتل الفن ويُبيده.

هناك حوار وطنى على وشك البدء الآن، اقترحه رئيس الجمهورية، وهناك مؤتمر اقتصادى تم الإعلان عنه. لابد أن يُطرح على طاولة الحوار الوضع الحالى للسينما والمسلسلات فى مصر، وتتم مناقشة هل الوضع الحالى مفيد للوطن ومفيد للنظام المصرى أم أنه سوف يُخرج مصر من خريطة السينما العربية والتليفزيون فى ظرف سنوات قليلة تحدث فيها منافسة ضخمة مع فتح واسع للحريات فى بلاد منافسة، وسوف تختفى مصر من الساحة ويضيع مجهود مائة عام من الفنانين المصريين؟. هذا الأمر ليس أمرًا فنيًّا فقط، وإنما السينما صناعة مهمة ممكن أن تزيد دخل مصر القومى بنسبة كبيرة إذا تمت إدارتها بطريقة صحيحة، والأمر لا يمكن أن يحدث طفرة إلا فى وجود حرية للمؤلفين والمخرجين، وأن يكون هناك تنافس حقيقى لا تكون الدولة طرفًا فيه، وإنما تساعد المتعثر وتفتح دُور سينما وتشجع على إنشائها بإعطاء مميزات ضرائبية. حينئذ تعود مصر إلى مجدها الفنى، وينتعش أيضًا الاقتصاد المصرى.

قوم يا مصرى.. مصر دايمًا بتناديك.
نقلا عن المصرى اليوم