فاطمة ناعوت
نُخفى عنها الجرائد!، وأتمنى ألا يتسرّب لها هذا المقال، وهى المعتادة على قراءة جميع مقالاتى!، ولا أدرى كيف سأُعزّيها؟!، وكيف سيكونُ الحوارُ بيننا بعد رحيل ابنها!، أخشى زيارتها؛ وأطمئن عليها من خلال صديقتنا المشتركة، السيدة «مشيرة محمود»، والممرضات المرافقات.

رحل «هشام» الجميل قُرّة عين أمّه السيدة «زينب لطفى»، ولا ندرى كيف نخبرها بالفجيعة، وهى بعدُ لا تعرفُ شيئًا عن مرضه الذى خطفه منّا!. كان حريصًا على ألّا تعرف، وكنّا حريصين؛ نخترع الحيلةَ تلو الحيلةِ لإخفاء الأمر عنها. استوحشته حين تأخر فى مهاتفتها. قبل عام كانت فى زيارتى وأخبرتنى باكيةً أن «هشام» الحَنون لا يسأل عنها!. اتصلتُ به ومازحتُه بأننى خطفتُ والدتَه، فقال إنه مطمئنٌ عليها معى.

جاهدَ ألّا يبدو صوتُه واهنًا وأخبرها أنه بخير ومعتكفٌ فى الغردقة. هو الابنُ البارُّ الذى صوتُه يردُّ إليها روحها العطشى لاحتضانه والشبع من عينيه الطيبتين وملامحه التى اقتطف وسامتَها من والده مايسترو كرة القدم كابتن «صالح سليم»، رحمه الله.

فى جميع لقاءاتنا فى بيتها الأنيق بالزمالك، كانت تقول لى: «سيلڤوبليه، هاتى الصورة اللى على الكونسول»، فأنهض وآتى بصورة تجمع الشقيقين خالد وهشام؛ طفلين على البلاج. تشير إلى هشام قائلة: «عمرك شوفتى طفل أجمل من كده؟!»، ثم تُقبّل الطفلين، وتعطينى الصورة لأعيدها.

يتكرر هذا الطقسُ فى كل زيارة وكأنه صلاةُ عشق أمٍّ لولدين صارا كلَّ حياتها بعد رحيل الزوج الآسر، الذى كان وسيظل أيقونة الموهبة والرقى والأخلاق، لا فى الملاعب فقط، بل فى فنّ الإدارة النزيهة، حتى صار مثلًا يُضرب فى السمو والتحضّر.

باغت المرضُ «هشام» منذ عام ونصف، فسقط فى حبائله التى لا فكاك منها إلا بالإذعان. والحقُّ أن المرض لم يباغته، بل أعطاه مؤشراتٍ واضحةً خلال السنوات الماضية، لكن هشام «الأب» كان مشغولًا بمعركة أخطر وأنبل مع ابنه «نور».

بدأ الأبُ المحترم «هشام سليم» الرحلة الطبية الشاقة مع الضنى الغالى، حتى استقام «نور» على عوده شابًّا وسيمًا كامل الرجولة. انتهت المعركةُ الطبيّة، لتبدأ المعركةُ التنويرية مع مجتمع لا يرحم؛ فيه بعضُ بشر «حِشريين» يزجّون بأنوفهم الطولى فى حيوات الناس ويقررون لهم مصائرهم ويُنصّبون من أنفسهم قضاةً وجلادين، وهم لا يعرفون شيئًا عن عذابات الناس. أوجعوا «هشام سليم» بسياطهم وأهلكوه بألسن أحَدَّ نِصالًا وأشرسَ من سيوف التتار.

كل هذا والسرطانُ المُهلكُ يرعى فى الجسد النحيل ويعطى إشاراتِه المتكررة، لكن هشام «الأب» تجاهل أوجاعَ الجسد ليساند الابن «نور» فى معركته المجتمعية مع غِلاظ لا يرحمون. ولمّا استقر حالُ الابن، بدأ الأبُ معركته الشخصية مع المرض اللعين، لكن الوقت كان قد فات!.

أنشب السرطانُ أنيابَه المخيفة فى الجسد، فوهنَ وخارَ وسقط. تحمّل من الآلام والأوجاع جبالًا قاصمة لا قِبَل لإنسان بتحملها. هل سانده أحدٌ؟. لا أحد. «هذا الزحامُ لا أحد»، كما يقول الشاعر. نسيه الجميعُ، والأمُّ لا تدرى عن مرضه شيئًا لتكون سندًا وعونًا ودعاءً. كنّا، ومازلنا نخافُ عليها فى كِبَرِها لئلا تسقطَ إن علمت. كان «هشام» وحيدًا فى مرضه إلا من قليلين.

ويُطلُّ الآن السؤالُ الموجع: آلاف المقالات والبوستات ومظاهرات الحبِّ والتمجيد والتعبير عن الحزن لرحيل «هشام سليم»، أين كانت فى حياته وهو فى أمَسِّ الحاجة إليها؟!!!. لماذا لا نبدأ فى إعلان الحب إلا بعد رحيل المحبوب؟!، لماذا نسينا هشام، فلم يرشحه مُخرجٌ أو منتجٌ لأىّ عمل يساعده على الصمود ومواجهة المرض؟. دفاترُ العزاء التى فتحها الناسُ لرثاء هشام، لماذا لم تكن زهورًا تُقدّم له وهو بيننا ليعرف أنه محبوبٌ على هذا النحو الهستيرى، الذى ظهر بعد رحيله؟!. لماذا؟!. حقًّا لماذا نُمجّدُ موتانا، وننساهم أحياء؟!.

احترامى لك أيها الجسور المثقف «هشام سليم»، الذى واجه مجتمعًا قاسيًا وكان صخرة صلبة لابنه، وعَبَّدَ مع الطبّ طريقًا وعرة شائكة لم يسبقه إليها كثيرون بهذا الجهر النبيل والجسارة المثقفة.

تلك الطريق التى قد يسلكها اليوم كلُّ مأزوم يعانى من غموض الهوية الجسدية مثلما عانى ابنه الجميل «نور». أشكرك يا هشام لأنك كنتَ سببًا فى صداقتى مع والدتك الرائعة «أبلة زينب»، حينما كنتُ ضيفةً فى برنامجك، وقالت لك: «أحبُّ هذه الكاتبة، هات رقمها».

وهاتفتنى الجميلةُ فى يوم جميل قبل عشر سنين، وصرنا صديقتين حميمتين. قلبى مع الجميلة الثكلى، التى مازلنا نخفى عنها خبر رحيلك. نخفى عنها الجرائد والموبايلات والتليفزيون وكل ما قد يخبرها بالفاجعة، ففى معرفتها موتٌ أكيدٌ لها. أطال الله فى عمرها، وأحسنَ مُقامَ «هشام» الجميل؛ كفنان محترم وابن بارّ وأبٍ مثقف.
نقلا عن المصرى اليوم