سليمان شفيق
تحل علينا الذكري الرابعة لرحيل المطران هيلار كابوتجى
رجل الله المقاوم، البطل الذى لم يكتف بالصلاة بل وتمنطق بلاهوت التحرير، وأعطى للأرض قدر ما أعطى للسماء، واستبق الملكوت على الأرض. ومن منفى إلى منفى، حيث شيعت جنازته منذ سنوات بالعاصمة اللبنانية بيروت، أقرب المدن إلى حلب والقدس، فيا أبانا الذى فى السماء الآن ليتقدس وطنك، ولتتحرر قدسك، وأنت الآن فى أورشليم السماوية وأمام عرش النعمة، اذكرنا وصل من أجل سلام حلب وفلسطين ومصر

كثيرون لايعرفون المطران المقاتل، كانت المرة الأولى التى التقى به عام 1980 بالعاصمة اليونانية أثينا ركعت أمامه، فيما يعرف عندنا كأقباط «بالمطانية»، مد يده وأقامنى قائلًا: «لا تركع إلا لله والوطن»، ومد إلىَّ صليبه، بللت صليبه بدموعى وقبلت جبينه. على جبينه خريطة فلسطين تطل من بين إكليل شوك المسيح المصلوب بالقدس ودموع ابناء غزة وحي الجراح تنزل مع المريمات من تحت صليب لا يبتعد كثيرا عن الاقصي، ومن بين عينيه لمحت بريق نور القيامة القادمة

يأتي العام الرابع لرحيلك  والقدس يبكي غزة ،وكأننا نطوى صفحة من صفحات شتات رمز من رموز المقاومة الفلسطينية، المطران هيلار كابوتجى، فى غربته بروما بعد أن قضى سنوات فى سجون الاحتلال الصهيونى بتهمة انتمائه إلى المقاومة الفلسطينية وتهريب أسلحة.. ويقول نيافة المطران: «إنى لم أزل أعتبر نفسى مطرانًا للقدس، والمطران ليس سيدًا، المطران هو خادم، المطران هو أب، والوالد عندما يرى ابنه معذبًا يهب لنجدته أيًا كان الثمن مضحيًا بالغالى والنفيس لمساعدته، والمطران هو أيضًا الراعى، والراعى عندما يرى الذئب مقبلًا يضحى بحياته دفاعًا عن قطيعه، قطيعى أنا منذ سنة 1965م يوم دخولى إلى القدس، قطيعى هو الشعب الفلسطينى، شعب رأيته بأم العين تحت الاحتلال، شعب مضطهد مغلوب على أمره، حقوقه مهضومة، كرامته مداسة، فكيف تريدنى أننى أعتبر نفسى أبًا لهذا الشعب، راعيًا له، أن أبقى مكتوف اليدين، ضميرى ووجدانى فرض علىَّ أن أهب لمساعدة هذا الشعب، ولقاء مساعدتى ودفاعى عن حقوقه ألقى القبض علىَّ، وحكم علىَّ بـ12 سنة سجن، خرجت بعد أربع سنين بناء على تدخل الفاتيكان بشخص قداسة البابا -رحمة الله عليه- بولس السادس، تدخل البابا لأنى آنذاك كنت مضربًا عن الطعام، وقد مضى على إضرابى عن الطعام سبعة وثلاثين يومًا، نزلت خلاله 35 كيلو، وبالتالى كانت حياتى فى خطر، فتدخل البابا لإنقاذ حياتى، بعد أخذ ورد طويلين بين الفاتيكان وإسرائيل قبلت إسرائيل بإطلاق سراحى بشرط أن أخرج دون أن أعود، خرجت فى 8 نوفمبر 1978م، ولم أزل حتى هذه الساعة أنتظر عودتى إلى وطنى إلى قدسى إلى شعبى، أنتظر نهاية غربتى، المثل العربى بيقول «الغربة كربة، والهم فيها حتى الركبة» وكتير أحيانًا أنا بأقول: مش حتى الركبة بأقول حتى الرقبة، لأنه عندما ينمو إلينا وفاة إنسان ما الذى تقوله؟ فلان فارق الحياة، فما الموت إذن إلا فراق ما هو عزيز: عائلة، أولاد، أصدقاء، أملاك، مال وإلى آخره، فهل أعز للأسقف مثلى من أبريشيته، من شعبه، من أرضه؟ هذا الفراق القسرى المفروض على هو الموت المعنوى.. يموت الإنسان مرة فقط جسديًا، ويموت مائة مرة فى النهار معنويًا، لأنى أنا جسم فقط بعيد عن فلسطين وأبنائى، إنما بقلبى، بضميرى، بروحى، بصلاتى، أنا دائمًا هناك معهم وبينهم، إذن أعيش من ذكرياتى والذكريات تولد الحنين، والحنين كذلك مبعث للعذاب.

وقد ولد كابوتشى فى مدينة حلب بسوريا عام1922، وأصبح مطرانًا لكنيسة الروم الكاثوليك فى القدس عام 1965. عُرف بمواقفه الوطنية المعارضة للاحتلال الإسرائيلى فى فلسطين، وعمل سرًا على دعم المقاومة. اعتقلته سلطات الاحتلال فى أغسطس 1974 أثناء محاولته تهريب أسلحة للمقاومة، وحكمت عليه محكمة عسكرية بالسجن 12 عامًا. أفرج عنه بعد 4 سنوات بوساطة من الفاتيكان، وطرد من فلسطين فى أكتوبر 1978. عاش فى المنفى حتى انتقاله، خينذاك لم يكن احد يتحدث عن ديانة المناضلين العظام وهل ياسر عرفات مسلم ؟ وهل الحكيم جورج حبش او نايف حواتمة مسيحيين ؟ بل كانت القدس مدينة الله وفلسطين مهد السلام والحب والحزن والثورة.

آة يا أبى الراحل في ذكراك الرابعة ،أطلب منك أن تحمل تحياتى إلى معين بسيسو ومحمود درويش وغسان كنفانى، وجورج حبش وابو علي مصطفي وفيصل الحسينى، وأن نرنم سويًا مع توفيق زياد.. أناديكم
أناديكم
أشد على أياديكم..
أبوس الأرض تحت نعالكم
وأقول: أفديكم
وأهديكم ضيا عينى
ودفء القلب أعطيكم
فمأساتى التى أحيا
نصيبى من مآسيكم