عاطف بشاي
ينقض طائر الموت البغيض ليخطف الأحبة من فنانينا الأعزاء تباعًا.. ويصبح عزاؤنا فى الحياة أن إبداعاتهم باقية.. وذكراهم العطرة حاضرة.. ومكانتهم الحميمة فى قلوبنا رابضة لا تُمحى.. كان آخرهم صديقى المخرج الكبير «محمد نبيه»، وكان واحدًا من أظرف ظرفاء هذا الزمن الضنين الذى شحّت فيه البهجة وعزّت الفرحة.. يتمتع بسرعة بديهة فائقة.. وقدرة مدهشة على استنباط المفارقة وسوء التفاهم، وهما أهم عناصر الكوميديا، وإن لم يجدهما خلقهما..

ولديه موهبة لا تُبارَى فى انتزاع الضحكات من عمق المآسى، واستخلاص البهجة من براثن الكآبة، وإشاعة الفكاهة من ثنايا التعاسة الإنسانية.. ولا يعانى تلك الازدواجية التى نلاحظها على المبدعين من الفنانين الساخرين بين إنتاجهم الكوميدى وبين طبيعة شخصياتهم التى يغلب عليها الإحساس الطاغى بالاكتئاب والاغتراب والعزلة.. فهو بَشُوش ضاحك فى كل الأوقات يطلق لسانه اللاذع بالنقد والسخرية على كل مَن حوله.. وفى أحلك المواقف وأصعبها.. وقد استخدم فى موضوعات أفلامه كل أنواع الكوميديا من كوميديا الموقف والموضوع والشخصيات بسلاسة وبراعة وإيقاع حيوى متدفق.. وأهمها: «أصعب جواز» و«آدم بدون غطاء» و«أنا وأنت وساعات السفر»، الذى يُعتبر نموذجًا رائعًا للدراما التى تجمع بين التراجيديا والكوميديا فيما يسمى «التراجيكوميدى» أو «الكوميديا السوداء» ومسلسلات «متاعب المهنة» و«عائلة شلش» و«فيه حاجة غلط»، وهى مسلسلات يناقش من خلالها أحزان ومشاكل ومعاناة الأسرة المصرية والطبقة المتوسطة فى المجتمع.. والحقيقة أنى كنت من سعداء الحظ الذين اقتربوا من المخرج الكبير منذ بداية مشوارى الفنى..

وأدين له بالفضل فى اكتشافه مبكرًا لموهبتى فى كتابة السيناريوهات ذات الطابع الكوميدى الساخر، حيث شجعنى بكل الود والحب والمساندة، وأخرج لى تمثيلية سهرة تليفزيونية بعنوان «لله فى خلقه شؤون» فى الثمانينيات من القرن الماضى.. ثم قدمت له معالجة كوميدية تحمل اسم «المصيدة»، أردت من خلالها أن أقدم موضوعًا جديدًا فى شكله الفنى، الذى لا يعتمد على الأحداث المتصاعدة بقدر الاعتماد على التفاصيل الصغيرة، التى تعبر عن مشوار مدته عشر سنوات فى حياة شاب (حديث التخرج والعهد بوظيفة حكومية متواضعة الدخل) وفتاة ربطت بينهما علاقة حب.. ينتصران فيها لحبهما فى مواجهة عريس جاهز، يعمل سباكًا، أمىّ، عائد من دولة عربية بكل إغراءات الشقة الفاخرة والمهر الكبير والأثاث والأجهزة الحديثة.. وكان هذا النموذج وقتها يمثل ظاهرة لشريحة اجتماعية جديدة من الصنايعية، الذين أحدثوا تغييرًا ملموسًا فى شكل السلم الطبقى لبلادنا.

أعجبت المعالجة «محمد نبيه»، ورشح لبطولتها صديقه الفنان الكوميدى الكبير «محمد عوض»، وطلب منى أن نجتمع ثلاثتنا بشكل كاد يكون يوميًا فى جلسات عمل لساعات طويلة نضع فيها تصورًا دراميًا لتفاصيل الحلقات.. كنت أُقبل على هذه الجلسات بسعادة غامرة لإعجابى الشديد بخبرة «محمد نبيه» فى ابتداع المواقف الكوميدية للكثير من الأحداث التى تساعدنى لتجسيدها فى مشاهد متتابعة.. كما جذبتنى لماحية «عوض» المبهرة فى سبك سلوك الشخصيات ولوازمها، وكثيرًا ما كان يرتجل حوارها ومخارج ألفاظها وحركتها، وهو يؤدى ذلك وكأنه يقف على المسرح فى مواجهة الجماهير.. وكانت تلك الجلسات تتم فى منزله.. وفى إحدى تلك الليالى الجميلة كنا فى قمة توهجنا واستغراقنا واندماجنا فى مناقشة تفاصيل الحلقة الخامسة أو السادسة على ما أذكر..

وإذا بضيف من بلديات «محمد عوض»- والذى كما فهمنا يعمل بمركز مرموق بوزارة الزراعة- يدخل علينا فى منتصف الليل آتيًا من مدينتهم «الزقازيق»، وما إن رحبنا به وجلس حتى انطلق فى الحديث المتواصل والرتيب عن الموارد المائية وعلاقتها بالرى ومدى إمكانية تطبيق الطرق الحديثة ودفع الاستثمارات ورفع الوعى لدى المزارعين والاعتماد على الرى بالتنقيط والقيمة المضافة.. و..وفشلنا تمامًا فى إيقاف استرساله أو تنبيهه إلى أننا فى جلسة عمل فنية أو أننا لا يعنينا كثيرًا، بل لا نفهم ما يقوله.. ولم يتوقف عن الحديث إلا حينما رن جرس التليفون ورفع «عوض» السماعة وظهر الانزعاج على ملامحه وانتفض واقفًا وقال لنا إن أحد أولاده يستنجد به لاصطدام سيارته بسيارة أخرى، وهرول تاركًا المنزل، معتذرًا، مرددًا: «خليكم زى ما انتم.. البيت بيتكم.. أنا راجع على طول».

تسرع الضيف بمواصلة حديثه الشيق عن كيفية التعامل الصحيح مع شبكات الرى والصرف وضرورة تقليل زراعة المحاصيل الشرهة للمياه مثل الأرز و.. قفز محمد نبيه واقفًا مُدَّعِيًا الانزعاج الشديد لأنه نسى وترك نوافذ أبواب السيارة مفتوحة، واستأذن لإغلاقها والعودة مرة أخرى وهرول خارجًا.

أُسقط فى يدى، وأدركت أن «محمد نبيه» قد حاك لى مقلبًا كعادته فى التعامل مع مثل هذه المواقف، وأنه لن يعود، وتركنى فريسة لذلك الضيف، و«نفد هو بجلده».

واصل الرجل حديثه معى بحماس منقطع النظير عن تطور نظم الرى القديمة بالوادى والدلتا، والتى تسهم فى زيادة إنتاجية المحاصيل.. و..

أحسست بالاختناق والرغبة فى البكاء، فنهضت ملتاعًا، وادّعيت بنفس طريقة «محمد نبيه» أنى نسيت موعدى مع والدتى، التى تركتها فى عيادة طبيب، ولابد أن أسرع إليها لأصطحبها إلى المنزل.

فى صباح اليوم التالى وأنا أهم بدخول مبنى التليفزيون، فوجئت بـ«محمد نبيه» خارجًا منه، صِحْت ضاحكًا: «كده برضه؟!، ده مقلب تعمله فىَّ؟!»، فإذا به يبادرنى بوجه متجهم: ماتنساش تتصل بمحمد عوض تعزِّيه.

- أعزيه؟!.. فى مين؟!.

- الضيف مات.

وأوضح لى أنه بمجرد عودة «عوض» إلى منزله ظل الرجل يواصل بنجاح كبير متحدثًا عن أهمية الحفاظ على نقطة المياه بالترشيد فى استخدام مياه الرى من خلال منظومة رى حديث و.. ومال فجأة رأسه على كتفه.. وصمت عن الكلام المباح وغير المباح صمتًا أبديًا.

Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم