محمد ابو قمر

أغلب عمليات الغزو والاحتلال في العالم القديم كانت تندفع من مناطق قاحلة باتجاه المناطق الحضرية المستقرة.

وفي الغالب كانت حياة الغزاة حياة قبلية قوامها الرعي الذي يعتمد علي الأمطار الموسمية ، وحين يسود الجفاف تندفع هذه القبائل في اتجاه المناطق التي لديها الوفرة الغذائية لتقوم بعمليات القتل والنهب والسبي والسرقة.
 
بالطبع لغة الغزاة اللذين من هذه النوعية مهما كان عدد مفرداتها لا تكون محملة سوي بتفاصيل حياة هؤلاء الغزاة ، ولأن تفاصيل حياتهم محدودة للغاية فإن لغتهم كانت تدور فقط حول هذا النشاط الرعوي المحدود وما يصاحبه من شعائر دينية ، وما يصاحبه أيضا من أنشطة تتعلق بالرعي بصفة أساسية .
 
عكس ذلك تماما تكون اللغة الأصلية المتداولة في المناطق المستقرة التي لديها وفرة غذائية ، إذ تكون هذه اللغة محملة بكل عوامل الاستقرار ومستنبتة من واقع الحياة ومستنبتة من التفاعل مع الطبيعة المحيطة . 
 
لغة المناطق المهزومة فيما مضي كانت محملة بالتأمل في الكون في محاولة لإدراك هذه القوة الإلهية التي تقف خلف كل الظواهر العصية علي فهم كنهها ، كانت محملة بإفرازات أخلاقية وإنسانية عمادها الوحدة والتعايش والسلام وتقديس العمل والإيمان بقوة عظمي هيأت لهم هذه الطريقة في الحياة التي تنمو بين أيديهم كل يوم.
 
لغة الغزاة في هذا الزمن القديم كانت لغة رملية تخلو من كل ذلك تماما ، بل حتي لا يعرف أصحابها كيف يستنبتون شتلة أرز واحدة ، ناهيك عن تشييد بيوت ومعابد وتعبيد طرق وإنشاء مدن خالدة.
 
.مدينة الأقصر مثلا شُيدت عبر لغة تحمل تصورات عن كيف يكون المعبد مهيبا وعظيما ، وكيف يكون الطريق إليه جميلا وجذابا ، فاللغة هي الوعاء الذي يتشكل فيه التصور ، والتصورات تتحول عبر اللغة إلي عمل ، والعمل لا يمكن إنجازه ببراعة إلا باستخدام أدوات يجري تصورها باللغة ، وهكذا لا تكون الحضارة مبهرة إلا إذا كانت مصنوعة عبر لغة إبداعية مستنبتة من التفاعل الإنساني الحي مع مفردات الطبيعة.
 
اللغة الرملية لا يمكنها تشكيل هذه التصورات ، فهي لا تحتوي إلا صحراء بلا نهاية ، لا يعرف أصحابها معني النظام والتراتب الوظيفي وتقسيم العمل والإبداع الفني والطب والتحنيط وصناعة الزجاج ونسج الخيوط وخلط الألوان ورسم اللوحات التي تظل محتفظة ببهائها لآلاف من السنوات.
 
لذا يمكن القول إن أبشع جريمة ضد الإنسانية هي إجبار الغازي للشعوب المقهورة التي تقع تحت سيطرته علي هجر لغتها الأصلية التي كانت هذه الشعوب تفكر بها وتبدع بها وتصنع حياتها بها وتنشيء نظامها الأخلاقي وتبدع قيمها الإنسانية بواسطتها وتصنع بها تاريخعا وحضارتها ..
 
من العبث البكاء علي حضارة اندثرت فهي لن تعود وحتي إذا عادت فلن يكون لذلك الآن أي فائدة تُذكر ، فأحداث التاريخ لها منطقها ، والحياة البشرية لكي تستمر تفرض علي الإنسان أحيانا أن يبني ويبدع ، وأحيانا تفرض عليه أن يدمر ويخرّب ويقتل ويمارس أبشع ما في روحه من تعطش للدماء ، لكنه حين يجرد فريسته من اللغة التي فكر من خلالها وصنع بها معجزته التاريخية ويفرض عليه لغته الرملية مهما كانت قداستها فإنه يكون بذلك قد ارتكب أبشع الجرائم علي الاطلاق لأنه حينذاك يكون قد عبث بجهالته في مسار الحضارة الإنسانية.