فاطمة ناعوت
هل من قبيل المصادفة أن يتفقَ عيدُ ميلاد هذا الرجل النبيل مع «اليوم العالمى للتسامح» (١٦ نوفمبر)؟! لن تراه فى أية صورة إلا بمعطف العمليات الفيروزى. فهو لا يخرجُ من غرفة عمليات إلا ليدخلَ أخرى، ولا ينفضُ يدَه من ورقة بحثية إلا بدأ فى غيرها. رجلٌ يقضى يومَه وليلَه يداوى ويُطبِّب ويبحثُ ويُطوِّر ويتعلّم ويُعلّم ويصنع كوادرَ جديدة تُنقِّبُ عن إكسير القلوب المُتعبة. يهربُ من الأضواء والشاشات والتكريمات لأنه يعتبرُ أن كل لحظة يقضيها فى حوار تليفزيونى أو على منصّة تكريم مخصومةٌ من وقت عملية جراحية قد تُبرئ مريضًا. لهذا كانت فرحتنا هائلة لحظة توشّح السير مجدى يعقوب بوشاح محمد بن راشد للعمل الإنسانى، واعتبر كلُّ مصرى أنه توشّح ذلك الوشاح مع ذلك الرجل الذى نذر عمرَه من أجل قلوب المتعَبين.

لهذا الرجل خفقةٌ فى كلِّ قلبٍ مصرىّ، وصورةٌ مُعلَّقةٌ على كل جدار. له مكانٌ فى كلِّ منصّة علم فى أرجاء العالم، وله مبضعُ جراحة على كلّ طاولة تُطيِّبُ قلب موجوع. له حلمٌ فى صدر كلِّ إعلامى يودُّ استضافته فى لقاء، وله ومضةُ عدسة فى كلِّ كاميرا تلاحقه لترصدَ إنجازاته النبيلة لصالح الإنسان. لكنه هاربٌ من الضوء، زاهدٌ فى الحديث، عازفٌ عن الدروع والأوسمة والتكريمات. إنه مشغولٌ بضبط إيقاع قلب طفل يكادُ يفارقُ الحياة قبل أن يدركها، أو قلب رجل تتضرّعُ أسرتُه إلى الله كى يعودَ إليها عائلُها الوحيد، أو قلب أمٍّ يبكى أطفالُها فى انتظار عودتها إليهم.

هو المايسترو الذى منحه اللهُ عصا قادرةً على ضبط إيقاع القلوب على نغمة الحياة. تأتى إليه القلوبُ الكسيرةُ وقد شابَ إيقاعَ قلوبِها بعضُ نشاز، أفسدَ موسيقى الجسد، فيعيدُ المايسترو دوزنة الخفقِ، ليتّسقَ مع أوكتاڤ الحياة. لا نلمحُ ضحكتَه إلا بين أطفال يتحلّقون حولَه يُمطرونه بالقُبلات والعناق لأنه ضبط إيقاع قلوبهم الموجوعة. ولا نلمحُ فرحتَه إلا لحظة خروجه من غرفة العمليات وقد أنقذ إنسانًا من الموت. فيما عدا هاتين اللحظتين، لا نلمحُ فى ملامحه إلا الصمتَ والعزوف عن الحديث. وفى مقابل هاتين اللحظتين فى حياة مجدى يعقوب، هناك لحظتان أخريان فى حياة مئات الآلاف من المرضى الذين دُوِّنت أسماؤهم فى سجلات مركز مجدى يعقوب لعلاج أمراض القلب. لحظتان فريدتان فى عمر كلِّ مريض منهم. لحظةٌ تعسةٌ كسيرةٌ فاقدةٌ للأمل، مع دخول المركز بقلب عليل لا يكاد يقوى على الحياة، ولحظةُ فرحٍ وأمل وانطلاق مفعم بالحياة، مع الخروج من المركز بقلب سليم قوى يرسم لصاحبه غدًا مشرقًا حاشدًا بالعمل والنجاح. ما بين اللحظتين الفارقتين فى عمر كل مريض، ثمّة عقلٌ يفكّر، وقلبٌ يحبُّ، ويدٌ تعمل، من أجل تحويل اللحظة الأولى إلى اللحظة الثانية. من أجل تحويل التعاسة إلى فرح، واليأس إلى أمل، والموت إلى حياة.

حَكَت لى صديقتى المثقفة «أمينة ثروت أباظة» عن مدبرة المنزل لديها وطفلتها التى ينهش المرضُ شرايين قلبها الصغير، وحار الأطباء فى علاجها. أرسلوا حالتَها لمركز مجدى يعقوب، فكانت فى اليوم التالى ترقد على أحد أَسِرّة المستشفى بين يدى البروفيسور العالمى، ولم تنتظر دورَها فى قائمة المرضى الطويلة، التى لا ينتظمها إلا شىء واحد وفقط: خطورة الحالة. قائمة المرضى لا تعرف شيئًا اسمه: غنىّ وفقير، مسلم ومسيحى، أبيض أو أسود، إلى آخر تلك التصنيفات العبثية، كل ما تعرفه تلك القائمة، وترتّب على أساسه أولوياتها، هو أن هناك قلبًا مريضًا يجب أن يُشفى. وشُفيت الطفلةُ بأمر الله وعبقرية طبيب مصرى نبيل، وبالمجّان. دون وساطة، ودون مصالح متبادلة.

وتتكرر تلك الحكاية كل يوم مع طفل جديد أو طفلة يداويهما البروفيسور مجدى يعقوب، الذى جاء من أسوان إلى القاهرة لينقذ حياة طفلة بائع شاى من بسطاء القاهرة، لم تستطع السفر لأسوان لتدهور حالتها. أجرى لها العملية مجانًا ودفع من جيبه تكاليف ما بعد العملية من متابعة وأدوية وأشعات وفحوص. السير مجدى يعقوب معجزة مصر الطيبة، وأحد أهراماتها البشرية الشاهقة، أحد أكبر أساطين الطب فى العالم، الذى أخبرته الملكة إليزابيث وهى تمنحه لقب «فارس Sir» أنه «هدية مصر للعالم أجمع». فطوبى لمصر بكَ، وطوبى للعالم بعلمك الرفيع وروحك النبيلة. وفى عيد ميلادك أقول لك: كل سنة وأنتَ فى ملء الصحة والفرح مثلما تهب الصحة لأطفالنا المرضى بإذن الله، وتمنح الفرح لأمهاتهم وآبائهم.

twitter:@fatimaNaoot
نقلا عن المصرى اليوم