عاشور بوراشد
المندوب المقيم بجامعة الدول العربية
ليس جلداً للذات ....وانما هي غضبة على الذات 
 فحالة التراجع الحاد التي تشهدها الأمة العربية على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية ماذا لو كانت الأزمة ازمة ثقافية وليست سياسية، فالسياسة هي احدى مخرجات الفكر شأنها شأن بقية النشاطات الأخرى .
 
تحتل السياسة العنوان الأبرز في المشهد الفكري والثقافي العربي ـــ عقب الحرب العالمية الثانية وظهور حركات التحريرــــ والذي يشخص ازمة الأمة العربية، ازمة سياسية شعراً ونثراً في انعدام الإرادة السياسية للتصحيح  وأن تغيير النظام هو الطريق للخلاص والتغيير ، وانطلاقاً من هذا المفهوم حدثت العديد من التغيرات السياسية في المنطقة العربية تحمل شعارات الحرية والانعتاق والعيش بكرامة، إلا أن هذه الشعارات لم تترجم واقعاُ على الأرض، بل وأطل الاستبداد مجدداً وربما جاء بشكل اسواء من الأنظمة التي اسقطها.  والمشهد الراهن يؤكد هذا المعنى، فسياسياً: القضية المركزية لم تعد مركزية بعد أن غيبتها حالة عدم الاستقرار السياسي في العراق وسوريا وليبيا والسودان وتونس واليمن ولبنان 
 
اقتصادياً: رغم الإمكانيات الهائلة البشرية والمادية تٌعتبر المنطقة العربية من افقر مناطق العالم من حيث دخل الفرد فيها مقارنة بالتجمعات البشرية الأخرى ( إجمالي ميزانيات 22 دولة عربية يعادل ميزانية دولة واحدة من الجنوب الأوربي !!!!!!!!!!!)
 
امنياً: على الرغم من التفاؤل الذي صاحب التغيرات السياسية التي شهدتها المنطقة في 2011 والتي بشرت بسقوط جدار الخوف إلا أن هذا الجدار لايزال يطل بظله  مبشراً بعودته .
 
يبدوا جليا ان عصور الإستبداد التي شهدتها الأمة لعدة قرون غيبت مفهوم الدولة والوطن والمواطنة لصالح السلطان فاعٌتبر النظام هو الوطن، والوطن هو النظام ، ويبدوا ان جينات فكرية( إذا صح التعبير) متوارثة لازالت تحكم العقل العربي في عدم قدرته على الفصل بين النظام والوطن بإعتبارهما شيئاً واحداً رغم انهما شيئان مختلفان تماماً لفظً وواقعاً.
 
فالنظام هو الحكومة السياسية التي تُدير شؤون الوطن وهي سلطة مؤقتة اما الوطن باق فهو التاريخ والجغرافيا والعادات والتقاليد، فالوطن هو الأرض فنحن جميعا نقف فوق ثرى أباءنا و اجدادنا وبعد حين سنكون جزء من هذا الثرى وهو ما يشكل رابطاً وانتماء يقينياً جامعا للوطن يتجاوز رابطة الدم .
إن هذا الخلط المميت بين الوطن والنظام واعتبارهما شيئاً واحداً في العقل العربي رغم اختلافهما جذرياً  لفظاً وواقعاً شكل حالة من الانفصام الفكري والازدواجية تلعن فيه الأوطان غضبة من السلطان ( العلامة الجابري: تُضرب الأوطان غضبة من السلطان).   نعم  قد تلعن الحكومات إلا إن الأوطان لا تلعن 
 
لقد ترتب على هذا الخلط انه انتج سلوكاُ على الأرض تٌلعن وتضرب فيه الأوطان مرتين .
 
الضربة الأولى على يد من يرون ان النظام هو الوطن ويؤيدون النظام وهؤلاء على إستعداد لإسكات اي صوت يتطاول أو يعارض النظام باعتباره الوطن  وقد يصل الأمر الى إخفائه تماماً، وهذا المنظور الخاطئ هو الذي مهد لثقافة التمجيد وصناعة انصاف الآلهة،  وهنا لا مكان للحديث عن تداول للسلطة والرأي والرأي الأخر 
 
الضربة الثانية وهي الأشد قسوة: على يد من يعارضون النظام (بالإضافة الى الغالبية الصامتة) وهم يرون ان الوطن هو النظام ويواجهونه بسلبية قاتلة في كافة المواقع التي يتواجدون فيها وقد يصل الأمر الى عرقلة أي إنجاز للنظام او تدميره واستباحة المال العام على اعتبار انه ملكية للنظام وليس ملكاً للشعب. ويرون ان هذه السلبية نضالاً من اجل الوطن. وهو ما أحدث شللاً في كافة القطاعات الإقتصادية والصحية والعلمية وتدني مستوى الخدمات.
لقد أنتج هذا الخلط بين مفهومين مختلفين مواجهة عبثية بين طرفيه باسم الوطن قائمة حتى اللحظة والوطن ينزف ويئن من كم الطعنات التي توجه له على يد أبنائه ولو نطقت الأرض للعنت كلاهما .
 
ايضاًقد يشكل هذا الخلط تفسيراً لتواضع مساهمة المجتمع العربي في التنمية بصفة عامة بكافة النشاطات الإنسانية سواء في الصناعة، الزراعة، الصحة، التعليم والبحث العلمي والتكنولوجيا والاتصالات. حيث ان هذه المساهمة تأتي في ذيل القائمة مقارنة بالتجمعات البشرية الاخرى والأرقام هنا مخجلة ومهينة .
لا احد يمتلك الحقيقة فالحقائق نسبية، إلا ان المريض عندما يٌسجى طويلا على فراش المرض وتزداد حالته تردياً رغم كل العلاجات المقدمة له فاليقين ان تشخيص الحالة خاطئي.
 
 محطة تستحق الوقوف عندها لتفكيك هذا التشابك والخروج من حالة الانفصام والغيبوبة الراهنة بإعادة النظر في هذا الموروث والتخلص من (حجر سيزيف). لكي لا نجير اخطاءنا ونورثها للأجيال القادمة.