جون جبرائيل
نقولا دي-كوسا (١٤٠١–١٤٦٤)
أديب كما يهواه الإنسانيون ورياضي وفيلسوف وصوفي، ولد بمدينة كوسا من أعمال ألمانيا، ونشأ عند «إخوان العيشة المشتركة» وكانوا متأثرين للغاية بالتصوف الألماني في العصر الوسيط، فانطبع هو بهذا الطابع، وفي الخامسة عشرة أخذ يدرس الفلسفة بجامعة هيدلبرج، وكان أساتذتها أوكاميين، فحفظ شيئًا من تعليمهم، وفي السنة التالية انتقل إلى جامعة پادوڤا بإيطاليا، وكانت معقل الرشديين، فدرس فيها القانون والرياضيات والفلسفة، دون أن يأخذ بشيء من الرشدية، ثم اشتغل بالمحاماة، ولكنه عدل عنها إلى الكهنوت، فترقَّى في مراتبه، فصار أسقفًا فكردينالًا، وكان موضع إعجاب وإجلال في مختلف المناصب التي تولَّاها، لما كان متحليًا به من التقوى والعلم وحسن تصريف الأمور، حتى مع البروتستانت، إذ أظهر نحوهم الشيء الكثير من التؤدة والتسامح.

كان «موسوعة» حية، له رسائل فلكية ورياضية يبدو فيها ممهدًا لكوپرنك ولإصلاح التقويم، وله كتاب فلسفي اسمه «الجهل الحكيم» (١٤٤٠) وهذا لفظ وارد عن القديس بونا ڤنتورا، وسنوضح المقصود منه فيما بعد، والكتاب مقسم إلى ثلاث مقالات: في الله، في العالم والإنسان، في العودة إلى الله بالفداء، ومذهبه فيه يرجع إلى ديونيسيوس وأبروقلوس وچون سكوت أريجنا ومن لف لفهم من فلاسفة العصر الوسيط؛ وذلك أن الأفلاطونية بانت له الوسيلة الوحيدة لتخليص الميتافيزيقا من الدمار الذي انتهت إليه على أيدي الاسميين، ولم تكن الأرسطوطالية في عهده توفر له هذا الغرض، ولكنها كانت رشدية ملحدة، فعارضها وبعث الصرخة التي لن تلبث أن تدوي في أرجاء أوربا: «لتسقط شيعة الأرسطوطاليين!».

يصل الكردينال دي كوسا إلى الله والتصوف بتحليل المعرفة على طريقة الأفلاطونيين، المعرفة بالإجمال رد الكثرة إلى الوحدة، أو هي تركيب وتوحيد، ففي المعرفة الحسية، التوحيد في غاية النقص، إذ أن الحواس تقبل الإحساسات متفرقة، وتدرك الأجسام إدراكًا غامضًا، ثم يزيد التوحيد بتكوين معاني الأنواع والأجناس، أي برد الجزئيات إلى ماهيات، ونظمها في قضايا وفقًا لمبدأ عدم التناقض، وهذا عمل العقل الاستدلالي، يعطينا علمًا محدودًا نسبيًّا مؤلفًا من احتمالات؛ لأنه ليس في العالم شيئان متشابهان تمام التشابه، وإنما هناك جزئيات منفصلة مستقلة لا يقاس بعضها على بعض، وهذه هي الاسمية التي أخذها عن أساتذة هيدلبرج، ثم يبلغ التوحيد أقصاه في الحدس، فتبطل عنده قيمة مبدأ عدم التناقض، وتدرك النفس توافق الأضداد التي يعرضها العقل الاستدلالي منفصلة متقابلة، وليس هذا الحدس معرفة، إذ أن المعرفة لا تحصل بغير كثرة واختلاف، فكمال التفكير في وقوف التفكير، فالجهل الحكيم معرفة الفكرة لحدوده، واعتقاده بالوحدة المطلقة وراء هذه الحدود، وبأن ليس مبدأ عدم التناقض المبدأ الأعلى، وليس الجدل العلم الأعلى الذي يخضع له العقل والإيمان، على ما يريد الاسميون. إن النقائض والأضداد ملازمة لعلمنا بالمتناهي، ولكنها تمحى في اللا نهاية؛ فالخط المنحني إذا صححنا انحناءه إلى ما لا نهاية، جعلناه كالخط المستقيم، وإذا فرجنا الزاوية القائمة في المثلث إلى ما لا نهاية، اختلط وترها بالضلعين الآخرين، ومتى اعتبرنا الحركة كأنها سكونات متتالية، اتفقت مع السكون، وهكذا في جميع الأضداد.

فالله الموجود الأعظم اللا متناهي الحاوي كل وجود، حتى النقائض: «هو الأشياء جميعًا في حال الوحدة أو الانطواء، والعالم الأشياء جميعًا في حال الكثرة أو الانتشار، الله الموجود المطلق الذي بلغت فيه كل قوة إلى الفعل والعالم الموجود المتشخص المركب المنتقل من القوة إلى الفعل». وجود العالم لا وجود بالقياس إلى الوجود الإلهي؛ لذا يجب أن ننفي عن الله كل تعيين، فلا يبقى لنا شيء نسميه، لأن كل اسم فهو ناشئ عن تفريق وتمييز، وهذا هو اللاهوت السالب كما صادفناه عند ديونيسيوس وسكوت أريجنا، وإذا أطلقنا على الله أسماء فإنما ندل فقط على أنه نموذج الموجودات ومصدرها، وهذا هو اللاهوت الموجب، أما العالم فيرجع كله إلى الله؛ إذ إن كل موجود فهو يرمي إلى استكمال ماهيته، ويرجع الإنسان إلى الله بالمعرفة؛ فإن طبيعته العقلية تسمح له باتحاد بالله أوثق، وكل هذا نعرفه عن الفلاسفة الذين ذكرناهم، وقد اتهم الكردينال دي كوسا بوحدة الوجود، فأنكر التهمة، وهو يفسر معنى توافق الاضداد والانطواء الإلهي بما لا يدع مجالًا للشك في مقاصده، فيقول إن الله أوجد العالم «عن قصد» لا ضرورة، وهذا ينفي كل اشتراك في الوجود بين الخالق والمخلوق.

يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة