الفلوس ... الفلوس
كمال زاخر
هى واحدة من شبرا الجنوبية '> كنائس شبرا الجنوبية بحسب التقسيم الكنسى الجديد، نسبياً، كانت تتميز بأمرين، الأول كاهنها الواعظ الأشهر، المشتبك مع المجتمع العام، يجيد لغة الجسد، ويوظف طبقات صوته الجهورى فى الاستحواذ على انتباه سامعيه، عرفه الشبراوية من خلال سرادقات العزاء وامتدت شهرته لكافة انحاء القاهرة من مشاركاته المميزة فى مؤتمرات الاتحاد الاشتراكى، التنظيم السياسى الأوحد وقتها، خاصة فى أزمنة الانتخابات البرلمانية والإستفتاءات الرئاسية، حتى انه لفت نظر مخرج الروائع حسن الإمام بأداءه الدرامى وقامته اليافعة وملامحه الدقيقة، وسمته المصرى، ليسند له دور كاهن قبطى يشارك فى حراك ثورة ١٩ ويعتلى منبر الجامع الأزهر الشريف ويقود الجماهير فى المظاهرات المطالبة بجلاء الإنجليز. ممسكا بيد أحد شيوخ الازهر فى كادر سنيمائى صار الأشهر فى تجسيد لحظة الثورة. فى ثلاثية نجيب محفوظ؛ ولم يكن المشهد مقحما على الثورة بل استحضار ومحاكاة لما سجلته صفحاتها لدور القمص سرجيوس خطيب الثورة، ولم تكن كنيسته بعيدة عن حى شبرا، بل كانت متاخمة له عند بوابته الجنوبية فى حى القللى الذى يربط شبرا بوسط البلد.

كان امبراطوراً فى كنيسته الشبراوية، وفى مرحلة من مراحل خدمته تعددت شكاوى رعيته التى تزاحمت على مكتب البابا كيرلس السادس، الذى استدعاه دون ان يواجهه بالشكاوى، بل ابلغه بأنه اختاره ليشاركه الصلاة بالبطريركية بشكل يومى، فلم يكن أمامه إلا القبول، كان البابا يؤمن بأن عند المذبح الحل والتقويم والإصلاح، ووجد الأب الكاهن نفسه يبكر كل يوم مع أول خيوط الفجر ليلحق بالبابا الذى اعتاد على صلاة القداس يوميا فى هذا التوقيت.

امتد الحال بالكاهن فى مرافقة البابا يومياً لأكثر من ثلاثة أشهر، ويوماً جلس الى البابا بعد تناول الإفطار على مائدته،

* بعد اذنك يا سيدنا عندى فكرة اود طرحها على قداستك.
~ خير قول يا أبونا.
* باستأذنك اعمل لافتة نحاسية حديثة توضع عند مدخل البطريركية.
~ ليه هى اللافتة الموجودة جرالها حاجة؟
* ابداً يا سيدنا لكن الدنيا بتتطور وانا هاعملها هدية للبطريركية.
~ طيب اعملها يا ابونا.
اخرج الأب الكاهن ورقة صغيرة من فراجيته واستاذن البابا فى قراءتها.
~ هما سطرين ياسيدنا اللى هيتكتبوا على اللافتة بطريقة الحفر (الزنكوغراف)
- السطر الأول (بطريركية الأقباط الأرثوذكس)
- السطر الثانى (تأديب وتهذيب وإصلاح)
صمت الاب الكاهن واطرق قداسة البابا برهة لم تطل.
~ يعنى انت تأدبت وتهذبت واتصلحت؟
* ايوه ياسيدنا تلات اشهر مع قداستك ومع المذبح وما يحصلش؟.
~ خلاص يا ابونا بكرة ترجع كنيستك وتصلى وتصالح ولادك.
يعود أبونا ويبدأ صفحة رعاية جديدة بل قل مرحلة جديدة فى عمره المديد.
٧

كان الأمر الثانى الذى يميز هذه الكنيسة الشبراوية "منظومة مدارس الأحد" المتفردة والمتميزة بانضباطها ودقتها وقوتها، كنت وقتها في سنوات الدراسة الجامعية الأولى وزاملنى عبر سنواتها الأربعة أحد خدام مدارس الأحد بتلك الكنيسة،  كنا نتحلق حوله وهو يحكى عن مدارس احد كنيسته، كان الصف الدراسى الواحد يضم من خمسة الى عشرة فصول، وتتوزع الخدمة فيها على يومى الجمعة والأحد لاستيعاب هذه الأعداد الكثيفة فى مراحلها الثلاث، كان أمينها العام مايسترو مدارس الأحد الذى يتسم بالحزم والانضباط والأبوة بآن.

لكنها شأنها شأن كل فروع مدارس الأحد، وقتها، كانت محل تربص خدمات الكنيسة الأخرى، وكان الصبية والشباب مصنفين فريقين، شمامسة ومدارس أحد، ولم تنتهى هذه الثنائية إلا مع صعود اسقف التعليم ليجلس على الكرسى البابوى.

فى زمن الحكاية، فى السنوات الأخيرة من سنينبات القرن العشرين، كانت جنازات الأربعين والسنة لها صلوات وطقس خاص، بمعزل عن القداس، وتقام فى أى يوم بالاسبوع وفى ساعات الظهيرة وتستغرق نحو نصف ساعة قد تطول بحسب وضع الراحلين الاجتماعى والمادى، ويمكن لليوم الواحد ان يشهد اكثر من جناز. على غرار الأفراح اليوم.

كان ابونا الكاهن منحازاً بالطبيعة ضد مدارس الأحد ليس فقط للمنافسة التقليدية، ولكن "لأن لسانهم طويل" فهم عرفوا اطياف من الطقس والتاريخ والقوانين الكنسية، وصاروا يجادلون الكبار، الكاهن ومجلس الكنبسة. كانت مدارس الآحد مصدراً دائماً للصداع، هكذا يراهم ابونا، وبخبرته كان يحرض المجلس على ان تاتى مواعيد جنازات الاربعين وتذكارات السنة فى توقيتات خدمة مدارس الأحد. الأمر الذى ينتهى الى الغاء الخدمة، او فى أحسن الأحوال تجميع الأولاد فى فصل واحد يتلقون فيه درساً عاماً متعجلاً، فترتبك الخدمة وتتعثر تنشئة الصبية والشباب.

كان الأمر لافتاً، ولم يلتفت ابونا ومجلسه لشكاوى امين الخدمة، وخدامه، فهم لا يملكون الا الشكوى.

جمع أمين الخدمة خدام المراحل الثلاث فى اجتماع استثنائى، وطرح الحال عليهم، وانتهى الاجتماع بتوصية ان يدعو الخدام كل أولياء أمور  التلامبذ الى اجتماع عام، كانت مدارس الأحد محل تقدير وثقة كل البيوت القبطية، وجاءت الاستجابة مبهرة.

لم تشهد الكنيسة مثل هذا الحشد الذى جاء يوم الاجتماع، إلا فى قداسات عيدى الميلاد والقيامة، يقف الأمين العام ليشرح لأولياء الأمور تفاصيل الأزمة، وكان طلبه منهم الامتناع عن تقديم عطاياهم المعتادة الأسبوعية والتوقف عن سداد الاشتراكات الشهرية، حتى اشعار آخر.

استمر الأمر لنحو شهرين متتالين، نفذ فيهما رصيد صندوق الكنيسة، حتى لم تستطع توفير مرتبات العاملين والكهنة وفواتير استهلاك الكهرباء والمياه. اسقط فى يد الاب الكاهن والمجلس، وتوفرت لهم تفاصيل ما حدث، فوضعوها أمام الأب الكاهن، وادركوا ان مفاتيح الحل فى يد مدارس الأحد.

بادر الاب الكاهن بزيارة الأمين العام؛ فى منزله، وعاتبه :
~ ينفع تعمل كده فى ابوك وفى الكنيسة وانت الإبن الغالى الذى يحتل مكانة خاصة فى قلبى واسترسل فى حديث أبوى لا تنقصه الحميمية وقد استحضر كل مواهبه ذات الصلة
- جاء رد الأمين العام لا تنقصه الكياسة والوضوح والبنوة:
- يا أبونا المحبوب نحن نقوم بخدمة هى بالأساس خدمتك، ونحفف عبئاً عن كاهلك، وانت تعرقل خدمتنا بطرق متنوعة.
~ طيب والحل.
- الكنيسة تضع نظاماً محدداً لمواعيذ جنازات الاربعين والتذكارات السنوية للراحلين بعيداً عن مواعيد مدارس الأحد، لا أكثر.
~ بس كده اعتبر ان المواعيد اتحددت.
انطلق خدام مدارس الأحد يطرقون ابواب أسر تلاميذهم، ويخبرونهم بأن الأزمة وجدت حلاً. عادت العطايا وتواصلت الاشتراكات،  فاض "طبق الكنيسة"، الذى كان يجوب على المصلين كل قداس، "بالعطا"، قبل ان تستبدل بالصناديق على جدران الكنيسة،
وتنتهى حكاية من زمن فات.