البحث عما وراء الكلمات
إعداد / نجيب محفوظ نجيب
تصوير / هانى ساويرس


 أتاح لها عشق الأدب والتاريخ والفن تنمية التفكير النقدي والانفتاح على الثقافات الأخرى.
 
       جيرار Girard هي مدرستها حيث تعلمت حب القراءة وتعلمت حب الحياة وتقدير قيمة العمل وتحمل المسئولية وحماية الطبيعة وخدمة المجتمع.  " أتذكر جيدًا أن المدرسة كانت بمثابة جنة بالنسبة لي، أقول إنني أنتمي وبشكل متعصب لمدرستي، أتذكر كل شيء، المدرسين الذين كانوا يعلموننا بحب وضمير، ساحة الفسحة حيث كنا نلعب كرة السلة أو كرة القدم، والمكتبة، مكاني المفضل حيث اكتشفت بحماس شديد الروائع الأدبية التي كتبها:
Victor Hugo, Alexandre Dumas, Henri Bosco, Alphonse Daudet, Georges Simenon, Ernest Hemingway,
باختصار، كل الكلاسيكيات اللازمة لمحبي الأدب كانت موجودة بالمكتبة.
 
       كنت أتناقش مع Sœur Nicole   التى كانت توجهني وتقترح علىّ أعمالًا أدبية للقراءة، فليرحمها الله.
وأيضًا ما يسمى ب"حصص الحياة" Cours de Vieمع  Sœur Ursula وقد علمتنا أن نقدر الجمال في كل ما يحيط بنا وأن نشعر بالسعادة التي تكمن في أبسط الأشياء حولنا وأن نستفيد ببساطة من وقتنا وأن نحاول أن نفهم الآخرين بشكل أفضل وأن نحب. هذه الحصص قد ساعدتنا أيضا على اجتياز مرحلة المراهقة التي قد تكون أحيانا حرجة، على العكس، فقد أحببنا أنوثتنا وكنا فخورين بذلك وفهمنا أن المرأة لا يمنعها شيء من أن تزدهر وأن تبدع وأن تسعى لتحقيق أحلامها وأن تصبح على سجيتها تمامًا. " هذا ما تذكرته دكتورة ياسمين حجاج، المدرس بقسم اللغة الفرنسية وآدابها بكلية الآداب، جامعة الإسكندرية.

      إن ما أحبته حقًا في المدرسة هو أنه إلى جانب العلوم واللغة اللذين كان يتم تدريسهما بمهارة وكفاءة، وهى ممتنة لجميع أساتذتها دون أن تتمكن من ذكر كل أسمائهم، لم تغفل المدرسة الشق الحياتي فتعلمت كل طالبة الاستمتاع بالحياة واختيار كل ما يناسب شخصيتها دون فرض أي نمط مكرر عليها فالمدرسة ليست مكان لتفريخ النسخ المتطابقة من الخريجات، ولكنها تساعد كل شخص على التعبير عن اختلافه وعلى الحرية في اختيار طريقه.

 ‏ ‏   ‏رغم حصولها على أعلى الدرجات في العلوم إلا أن د. ياسمين اختارت دراسة الأدب ‏في الثانوية العامة حبًا في الأدب والتاريخ، في حين أن أغلب الطلاب كانوا يفضلون الدراسة العلمية التي كانت تبدو في نظر المجتمع أكثر قيمة ووجاهة من الدراسة الأدبية.  "‏لم تخضع رغباتي قط لما يمليه المجتمع وهذا ما أنصح به الشباب، ألا ينساق وراء ما يجب أن يكون من وجهة نظر الآخرين، بمعنى آخر ألا يترك ما يحب حتى لا ينتهي به الأمر ‏لأن يعيش حياة لا يحبها ويقوم بعمل لا يطيقه. حب العمل هو ما يجعل صاحبه يتفوق فيه لأنه لا يشعر بالمجهود الذي يبذله. لا يجب أن ‏تؤثر أفكار الآخرين على قراراتنا الخاصة وهذا طبعًا لا يمنع من الأخذ بالنصيحة لكن القرار النهائي يعود إلى الشخص نفسه. هكذا اخترت دراسة الأدب رغم قدرتي على استكمال الدراسات العلمية كما كان يفضل "الكبار". ‏وهكذا أيضًا اخترت ألا أعتمد على الدروس الخصوصية في الثانوية وأن أعتمد على مجهودي."

   ‏ يعرف الجميع جيدًا الهلع الذي تسببه السنوات الأخيرة في المدرسة، فالكل يتسارع إلى حجز مكانه مقدمًا لدى المدرسين الخصوصيين بينما ظلت دكتورة ياسمين هادئة تماما تستمتع بالإجازة الصيفية ولم تبدأ المذاكرة إلا مع بداية العام الدراسي.

   " كان يحدث كثيرًا ‏‏أن أتواجد وحدي في الفصل ‏بسبب غياب باقي الطلاب ولكن كان أساتذتي موجودين لأنهم عندما كانوا يرون أن الطالب مهتم كانوا يقومون بعملهم دون أي تقصير. ‏أعدتني سنوات المدرسة الأخيرة إعدادًا جيدًا للدراسة في الجامعة لأنني اعتدت أن أعتمد على نفسي فقد علمتني التجربة التعليم الذاتي. ‏في الوقت نفسه، لا يمكن إغفال دور المنزل حيث لم تقم جدتي، وهي التي ربتني، بالضغط علىّ حتى أفعل كما يفعل الآخرون. ‏على العكس، كانت تشجعني في اختياراتي دون أن تستبق النتائج. ‏كلل مجهودي بالنجاح عندما حصلت على مجموع عال يسمح لي باختيار أي كلية تعجبني وللمرة الثانية، اخترت الآداب الفرنسية وتلك كانت أول رغباتي وليس العلوم السياسية أو الإعلام أو الألسن"، أكدت د. ياسمين بفخر.

‏    الميزة في دراسة الأدب الفرنسي هي أنها سمحت لها بتنمية التفكير النقدي والانفتاح على الثقافات الأخرى. ‏إلى جانب المحتوى العلمي، تقوم هذه الدراسة ببناء الشخصية وتساهم ‏في الوقت نفسه الأنشطة المختلفة مثل المسرح وغيرها على التنمية الشخصية.
 
    تقول د. ياسمين حجاج ناصحة ‏طلابها: "‏لم يفتني تقريبًا أي نشاط ثقافي أو اجتماعي أثناء سنوات الدراسة. ‏أنصح دائمًا طلابي بأن يفعلوا الشيء نفسه. ‏لا ‏ يكفيني أن أجد في الفصل طالب ممتاز لكنه غير مهتم بأي من مناحي الحياة الأخرى. ‏أنصحهم دائما بالبحث عما وراء الكلمات وعما يصنع شخصياتهم وألا يظلوا راكدين في مستنقع الروتين. ‏أفضل وقت لذلك هو ‏وقت الدراسة حيث تقل المسؤوليات وهذا ما سيجعل منهم أناس مختلفين يشعرون بالامتلاء الروحي".

‏   أنهت دراستها بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى وحصلت أيضًا على كأس الطالبة المثالية على مستوى الكلية وفي المركز الثاني على مستوى جامعة الإسكندرية بكل كلياتها. جاءت ‏د. ياسمين في القائمة النهائية للمتسابقين في جائزة Prix du Jeune Ecrivain   لمرتين وهي جائزة يشارك فيها أكثر من ٥٠٠ متسابق لدي أغلبهم اللغة الفرنسية كلغة أم.
 
     "‏إلى جانب الدراسة، يجب أن يكون الإنسان نشط، أن تكون لديه معلومات عامة جيدة وأن يستغل مواهبه لخدمة الآخرين. ‏كانت الحياة العملية بعد التخرج تجربة صعبة كما تعرف. ‏جربت بعض الأعمال قبل تعييني معيدة بقسم اللغة الفرنسية وآدا بها كلية الآداب جامعة الإسكندرية. ‏وبفضل لله، ‏أحببت عملي بالتدريج. ‏رغم فترات من الشك إلا إنني أستطيع أن أقول إنني لست نادمة على أي من اختياراتي السابقة. ‏العمل في الجامعة بمثابة تعليم مفتوح ولا حدود فيه للمعرفة. ‏استطعت أن أنهل من العلم وأن استكمل دراساتي العليا."

‏    حصلت على الماجستير في ٢٠١٤ في مجال الدراسات الثقافية و السينمائية. ‏وفي ٢٠١٧، حصلت على درجة الدكتوراه وقامت بدراسة الصورة وتأثيرها على المجتمع من خلال دراسة أسطورة مدينة الإسكندرية الغالية كما جاءت في الصحف الفرنكفونية المصرية بين ١٩١٩ و١٩٣٩. ‏ ‏أتيح لها في الرسالتين التعاون ‏مع نخبة من الأساتذة في الجامعات المصرية والفرنسية وفي الدكتوراه مع Jean-Yves Empereur et Marie-Delphine Martellière بمركز الدراسات السكندرية. ‏لمن لا يعرفه، أسس هذا المركز بمجهودات Jean-Yves Empereur ‏وقام بإعداد كثير من الدراسات المرموقة عن تاريخ الإسكندرية وآثارها عبر العصور ومن أبرز إنجازاته انتشال حطام فنار الإسكندرية من الميناء الشرقية في عام ١٩٩٠.
 
      ‏تحكي د. ياسمين عن أسفارها موضحة كيف استفادت إلى أقصى درجة من إقامتها في مختلف البلاد التي زارتها: "‏حصلت في ٢٠١٢ ‏على أول منحة لإعداد المدرسين في منطقة Franche-Comté  بفرنسا. كانت التجربة ‏ ثرية ولحقتها العديد من التجارب المشابهة. ‏في ٢٠١٥، ‏أقمت في باريس لجمع المادة العلمية للدكتوراه وفي نفس العام، شاركت في المنتدى الدولي للغة الفرنسية في بلجيكا في إطار مشروع جماعي للابتكار في تدريس اللغة الفرنسية. ‏في ٢٠١٧ و٢٠١٨، سافرت ‏للانضمام إلى مبادرة Libres Ensemble التابعة للمنظمة الدولية للفرنكفونيةOIF . في ٢٠١٩، ‏حصلت على منحة بجامعة Salamanca ‏في إسبانيا للتدريب على تدريس اللغة الإسبانية كلغة ثانية. ‏وفي نفس العام حصلت على منحة لاستكمال دراسات ما بعد الدكتوراه في باريس. ‏وسنحت لي الفرصة للعمل كمترجمة ومدرسة لغة بأكبر مخيم للاجئين في أوروبا في جزيرة ليسبوس اليونانية. وبالطبع ساهمت هذه التجربة بشكل واضح في تشكيل نظرتي إلى العالم. ‏وسافرت أيضا إلى إيطاليا واليونان والنمسا وغيرها... ‏ما أحاول أن أقوم به أثناء السفر، ‏هو الاندماج في الثقافة والمجتمع الذي أعيش فيه لأنه فقط بهذه الطريقة يمكننا أن نتعلم أكثر من إقامتنا في البلاد ونستمتع بها ونفهم الآخر. أرى أن ‏الرحلات السياحية السطحية لا تجدي نفعًا كبيرًا. ‏من الضروري أثناء السفر الفهم الجيد لتاريخ وثقافة كل ما يحيط بنا لإدراك المعنى الخفي للأشياء. ‏الصخرة ما هي إلا صخرة حتى نفهم قصتها وحينها تتحول الصخرة إلى عالم متكامل ولا تصبح كما كانت في أعيننا".

‏      تتابع د. ياسمين كل ما يخص الفرنكفونية عن كثب منذ سنوات الدراسة. ‏اشتركت في تنظيم المؤتمر الدولي للمعرفة والثقافات الفرنكفونية في الإسكندرية بحضور عبده ضيوف السكرتير العام للمنظمة الدولية للفرنكوفونية وكانت في الفرقة الأولى بالكلية. ‏في ٢٠١٥ ثم في ٢٠١٧، ‏اشتركت من جديد في أنشطة المنظمة الدولية للفرنكوفونية. ‏في ٢٠١٧، ‏تم اختيارها للمشاركة في القافلة البحرية من الأطلنطي إلى المتوسط، من مرسيليا إلى باستيا، لإحياء قيم التعايش من خلال تجربة فريدة من التعايش والتبادل الثقافي. ‏في خلال ١٥ ‏يومًا، ‏وبعد التدريب المكثف على الإبحار في مدينة Rochefort  ‏بفرنسا، ‏شاركت كأحد أفراد طاقم السفينة Hermione ‏وهي نسخة متطابقة من فرقاطة الجنرال Lafayette ‏في القرن الثامن عشر ‏وقد أبحر عليها نحو الولايات المتحدة الأمريكية باسم الحرية والسلام. كانت الرحلة في ٢٠١٨ تحت شعار الحرية في بحر قد تحول إلى مقبرة جماعية نتيجة لأزمة الهجرة. ‏عند عودتها، أقامت د. ياسمين ورش Libres Ensemble  ‏في مصر ‏لمشاركة التجربة وحث الشباب على التعاون من أجل أهداف مشتركة بغض النظر عن اختلافاتهم. ‏كان دعم ‏M. Thierry Verdel ‏ رئيس جامعة Senghor ‏عاملًا أساسيًا لاستكمال التجربة التي جذبت عديدًا من المشاركين.
 
     "‏أحاول في عملي أن أساعد الطلاب على توسيع آفاقهم على أمل مساعدتهم في أن يصيروا مواطنين إيجابيين ونشطين، أريدهم أن يخرجوا من العزلة التي قد يسببها عدم الانفتاح على الآخر وقلة المعرفة. ‏ ‏لذا أحاول أن أوجههم لاكتشاف شغفهم ومواهبهم واستغلالها. ‏منذ ثلاث سنوات، ‏قمت بتأسيس VOX Lab  ‏لمساعدة ‏الطلاب على تحسين مستوى اللغة الشفهية الفرنسية من خلال مشروعات إبداعية صوتية ومرئية محفزة لهم. ‏فمشروع الدوبلاج على سبيل يجذب كثير من الطلاب وحتى الخريجين يعودون للمشاركة فيه. ‏في العام الماضي، حبًا في الإسكندرية، ‏ورغبة في إحياء التراث لدى الطلاب، ‏أدخلت منهج جديد لدراسة تاريخ المدينة وزيارة معالمها. ‏بفضل دعم M. Thierry Perret، مدير المعهد الفرنسي، ‏كنا على وشك تحضير مسارات سياحية أدبية على خطى كتّاب الإسكندرية ولكن للأسف تعطل المشروع بسبب جائحة كورونا ونتمنى المواصلة قريبًا. ‏إن جاذبية مدينة الإسكندرية وخصوصية تاريخها يعدوا مصدر إلهام لكل من عاشوا فيها"، ‏تتحدث المدرس عن مشروعاتها من أجل تشجيع الطلاب على اكتشاف شغفهم.

‏   وأخيرا تحث د. ياسمين الطلاب على السعي لتحقيق أحلامهم:
    "‏الإلهام. ‏رغم الأزمات الكثيرة، ‏لا يخلو العالم من الجمال الملهم. ‏بالنسبة لي، ‏الطبيعة والفن والجانب الروحاني للحياة بعيدًا عن الروتين اليومي والمادية، هم ‏جوهر السعادة. ‏كعازفة بيانو، ‏محبة للرسم والفن بشكل عام، ‏أعرف أنه غالبًا ما تمكننا موسيقى جميلة أو كتاب جيد أو لوحة من السفر إلى عالم مواز نعود منه ملهمين إلى درجة أن نرغب في تغيير العالم. ‏وبدون أي مبالغة، فإن التغيير أو تغيير العالم يمكن أن ينتج عن تصرفات بسيطة. ‏يمكننا أن نزرع شجرة ونغير العالم أو أن نبتسم ونغير العالم. ‏أيًا كان حجم التغيير، فإن مجهوداتنا البسيطة من أجل الوصول إلى أحلامنا تتراكم وهكذا تصبح الحياة أفضل رغم المصاعب. ‏هذا هو ما أريد أن أنقله لطلابي الشباب، ‏الحفاظ على روح الحماس والإلهام رغم التحديات وأن يؤمنوا بأنفسهم ويتعلموا كيف يعيشوا سعداء وأن يتذوقوا ويقدروا الجمال الذي سوف ينعكس على حياتهم وتصرفاتهم."