د. نادر نور الدين محمد
رغم ما لدى إثيوبيا من وفرة فى مياه الأنهار العديدة والأمطار والمياه الجوفية ينبغى أن تجعلها راضية، إلا أن ذلك لم يضف إليها إلا أطماعا فيما لدى الغير من مياه قليلة، وتريد أن تقتطع مياها لا حاجة لإثيوبيا بها لتكوّن مخزونا مائيا ضخما. لذلك كان مقبولا من إثيوبيا أن تعلن عن بناء سد النهضة بسعة تخزين 14.5 مليار م3 تكفى لتوليد قدر كبير من الكهرباء ولا تضر كثيرا بدولتى المصب، لكنها سرعان ما قررت، بعدوانية غير مبررة، زيادتها إلى 75 مليار م3 دون مبرر سوى خلق المشاكل مع مصر والسودان والكيد لهما بتعمد الضرر.

فتخزين إثيوبيا لهذا الحجم من المياه يعنى أنها ستستنزف أى مخزون من المياه فى مصر والسودان للمستقبل، ويضع البلدين تحت إرادة إثيوبيا المنفردة فى ضخ ما تشاء من المياه إليهما، وأيضا منع ما تشاء، وهذا لن يجلب إلا الحروب. فما الحاجة لدولة تدعى أنها فقط تريد توليد الكهرباء وتستجدى عواطف العالم بالفقراء المحتاجين إليها، بينما هى تضمر الشر الواضح لدولتى المصب فى أنها ترفض ضمان أى حصة من سابق تدفقات النيل الأزرق إليهما. فقد بدأت سياستها بأن هذا السد لتوليد الكهرباء فقط، وأن إثيوبيا لن تستفيد بقطرة مياه واحدة من خزان بحيرة السد الإثيوبى، ثم سرعان ما كشفت عن نيتها فى تعمد الضرر والكيد لدولتى المصب.

فقد أثارتا مصر والسودان مع الجانب الإثيوبى أثناء المفاوضات بأن النيل الأزرق يساهم قبل بناء السد فى مياه نهر النيل بمتوسط 49 مليار م3 كل عام، فبأى قدر سيتشارك بعد بناء السد والتى ينبغى ألا تقل، طبقا لتصريحات مليس زيناوى فى حواره الشهير فى مصر فى نوفمبر 2011، إلا أن إثيوبيا تهربت وأظهرت نيتها فى الضرر بعدم ضمانها لأى قدر من مياه النيل الأزرق بعد بناء السد، والتى من المفترض أن تتعهد لمصر والسودان، إما بنفس تدفقات النيل الأزرق أو تنقصها إلى 45 مليارا، تحسبا للبخر من مسطح البحيرة أو حتى إلى 40 مليار م3، تحسبا لقدر من الأطماع فى المياه.

الحجة الأخرى الإثيوبية أن الحديث عن تقسيم المياه يتطلب مشاركة باقى دول منابع النيل وهذا كذب وبهتان وملاوعة إثيوبية معتادة لأن النيل الأزرق مجرد فرع من فروع نهر النيل الأربعة، وأنه لا حصص للفروع، فلا حصة لمصر لا فى النيل الأزرق ولا الأبيض ولا عطبرة ولا السوبات، ولكن تتجمع هذه الأنهار فى السودان، متجهة إلى مصر محملة بما قدر لها الله من المياه لدولة المصب الصحراوية، وبالتالى فالحديث عن فرع النيل الأزرق إنما هو حديث عن ضمان حد أدنى من التدفقات التى يشارك بها فى نهر النيل وليس الحديث الملاوع عن حصص مياه النهر كاملا.

الأمر الآخر أنه، وطبقا لقانون الأمم المتحدة لمياه الأنهار العابرة للحدود، فالحصص هنا ترتبط بوجود مياه أخرى تستفيد منها دولة المنبع، حيث هناك أحواض لستة أنهار إثيوبية أخرى بخلاف أنهار النيل الثلاثة، وتعطى لإثيوبيا وفرة مائية تغنيها عن أى احتياجات لمياه النيل الأزرق الذى يجرى بين جبال وأخاديد عميقة للغاية، وكأن الخالق والطبيعة يحميانه من الأطماع الإثيوبية، ومع ذلك فقد انتظروه على الحدود مع السودان قبل أن يغادر مباشرة من أجل تعمد إحداث الضرر بالجار، وهى مخالفة بحد ذاتها يجرمها القانون الدولى، وهدد البنك الدولى بتطبيقها عام 2010 إذا امتنعت الدول المصدرة للقمح من حجبه عن الدول الأخرى أثناء أزمتى الغذاء العالميتين الأولى والثانية، فحتى فى أشد الأزمات لا ينبغى للإنسانية أن تسمح لأحد بأن يتناسى جيرانه ويتعمد الإضرار بهم. فلو تخيلنا أن إثيوبيا سوف تخزن من كل حوض من أحواض أنهارها التسعة 70 مليارا مثلما تريد من مياه النيل الأزرق، فإن هذا يعنى أن هذه الدولة تريد تكوين مخزون هائل من المياه على أراضيها، وهذا ما لا ترتضيه الدول المتشاطئة مع إثيوبيا فى باقى الأنهار مثل كينيا والصومال وجيبوتى والسودان ومصر.

إن تخزين هذا الكم الهائل من مياه النيل الأزرق على الأراضى الإثيوبية لهو تخزين جائر لن تسمح به مصر والسودان أبدا، وسيحدث نفادا تاما لأى مخزون للمياه فى البلدين تحسبا للمستقبل وما يحمله من جفاف وقحط، ويضعهما تحت الرحمة الإثيوبية وما تسمح به من مياه وهذا ضد القانون الدولى، خاصة أن توليد الكهرباء من السد لا يتطلب أكثر من 15 مليار م3 يمكن السماح بمضاعفتها إلى 30 مليار ولكن ليس أبدا إلى 70 مليارا، وإثيوبيا تعرف كيف تقلص هذا المخزون الضخم إلى رقم مقبول لدولتى المصب عن طريق تقليص ارتفاع السد الجانبى الذى أنشئ لغرض عدوانى وليس تنمويا، وبالتالى فإن مصر والسودان لا ينبغى أن توافقا أبدا على تخزين إثيوبيا لهذا الكم الهائل من المياه ولن تسمحا أيضا بعدم ضمان إثيوبيا لحد أدنى من تدفقات رافد النيل الأزرق، كما كان فى السابق قبل بناء السد بسياسة لا ضرر ولا ضرار، وأن الفوز يمكن أن يكون للجميع بأن تكون الكهرباء ومياه بحيرة تانا لإثيوبيا ومياه النيل الأزرق لمصر والسودان، حيث إنها بلا بديل للبلدين بعكس بدائل المياه المتعددة فى إثيوبيا ولا استفادتها من مياه بحيرة تانا بحجم 40 مليار متر مكعب. هذه قراءة للمستقبل ولن يسمح أحد لإثيوبيا بتخزين هذا القدر الضخم من المياه فى أراضيها كدولة منبع عليها التزامات مع دولتى المصب.

* أستاذ الأراضى والمياه بجامعة القاهرة