عاطف بشاي
«إنت معترض ليه؟.. مش هو ده الواقع اللى احنا عايشينه؟!».

لا بد أن يصفعك هذا السؤال الاستنكارى الساخط من المتلقين للأعمال الفنية- خاصة الدراما السينمائية والتليفزيونية- وذلك حين تبدى نفورك من شيوع العنف والبلطجة، والقتل واستخدام السيوف والخناجر فى معارك دامية، والتحرش والاغتصاب والخيانات الزوجية، والخروج على القانون، والاعتداء الجسدى من قبل الأزواج على زوجاتهن بالضرب والركل، ناهيك عن انتشار للغة جديدة متدنية تحوى عبارات منحطة، وتعبيرات مسفة ومفردات لفظية غليظة وسبابا قبيحا، اجتاحت الشارع المصرى فى السنوات الأخيرة، وانتقلت إلى الشاشات فأصبحت وباءً يهدد هويتنا.. ويمثل ردة حضارية وقبحًا يزدرى الجمال.

وسوف يصدمك أكثر أن استنكار اعتراضك لا يقتصر على المشاهد لتلك الفنون الدرامية، ولكنه للأسف يمثل قناعة ويقينًا مستقرًا لدى القائمين على تجسيدها، ابتداء من المؤلف والسيناريست والمخرج والأبطال وبعض النقاد؛ بحجة أن الفنون المرئية وظيفتها نقل الواقع المعاش كما هو برمته. وقد يستشهد بعضهم بتعريف الفيلسوف الكبير «أرسطو»، فى كتابه المهم الذى يعتبر المرجع الأول لما يمكن تسميته بالبناء الدرامى، وهو كتاب «فن الشعر»- بأن الفن محاكاة للواقع.. والحقيقة أن «أرسطو» لم يكن يعنى بمصطلح «المحاكاة» النقل المباشر والفوتوغرافى لهذا الواقع.. ولكنه كان يقصد الانطلاق من حدث أو واقعة أو ظاهرة كمقدمة منطقية للعمل الفنى.. ثم تجاوزه إلى آفاق فكرية وفلسفية واسعة وعميقة وشاملة، تعلو فوق حاجات الواقع الاجتماعى واللحظات الراهنة والزمن المحدود والتفاصيل اليومية.. وهو يقول فى ذلك صراحة إن من شأن الفن أن يصنع ما عجزت الطبيعة عن تحقيقه، فالفن ليس نسخًا للواقع أو اتصالًا مباشرًا بالأشياء بل هو محاكاة منفتحة تقوم على تبديل وتغيير وتعديل واستخلاص للجوهر، وخلق واقع مواز جديد أكثر قيمة وهدفًا ومعنى.

والفنون المرئية فى بنائها الدرامى تختلف عن الواقع المعيش اختلافا جوهريا؛ فالواقع مترهل لكن الفنون الدرامية متماسكة ومنظمة تخضع للمنطق والإيقاع.. والواقع ملىء بالمصادفات ويلعب القدر دورًا كبيرًا فى مصير أبطالها.. لكن الفن المقدمات فيه تؤدى إلى النتائج.. والبدايات إلى النهايات.. ويعتمد على الأزمنة القوية ويلفظ الأزمنة الميتة غير المؤثرة أو الفاعلة. فالزمن الدرامى يعتمد على الأحداث التى تتمخض عن الصراعات الداخلية أو الخارجية، ويستبعد الأزمنة التى لا تحتوى على أحداث تدفع الدراما إلى الأمام. كما يمكن فى الفنون الدرامية العودة إلى الزمن الماضى (الفلاش باك) أو استقراء الزمن المستقبلى.. وبالتالى فإن المؤلف هو خالق الزمن الدرامى الخاص بالعمل الفنى.

إن الفنون تحدثنا عن الواقع بلغتها الخاصة، وهى لغة تتضمن الإيحاء والرمز والحدس والانفعال والتأمل والتداعيات والغوص فى أبعاد الشخصيات الدرامية الاجتماعية والنفسية والإنسانية، والنفاذ إلى مبررات سلوكها وتناقضات أفعالها وسبر أغوارها، والبحث عن الحقيقة التى تكمن وراء ضرورات حياتها العملية وجدواها.

لذلك فإن الفيلسوف «برجون» يصف «الفنان» - كما ورد فى كتاب د. زكريا إبراهيم «مشكلة الفن»- بأنه إنسان نافذ الصبر.. عميق الحدس.. حاد البصيرة، يملك قدرة هائلة على إدراك ما يفوتنا فى العادة إدراكه لأننا مشغولون بالعمل والحياة العملية والاجتماعية واللحظات الآنية.. على حين أن الفنان مستغرق فى البحث والنظر والتحليل.

إن الخطاب الفنى خطاب جمالى يدعو إلى التأمل من خلال إلهام مبدع متفرد يتخطى المظهر إلى الجوهر فى اتحاد عضوى بين الشكل والمضمون.. الإطار والمحتوى.. العرضى والدائم.. تتشابك فيه عناصر الشعورية واللا شعورية.. وهو ليس انفصالًا مطلقًا عن الحياة، وليس أيضًا ارتباطًا مطلقًا بها.. إنه تكثيف للواقع وتعبير عنه وتخليصه من شوائبه الضارة، وعشوائيته وقبحه وترهله.. وارتقاء به وسمو بمعانيه وانسجام وتناغم فى إيقاعاته.. إنه التحام حميم بين الفكر والجمال والخيال.

Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم