الأب اثناسيوس حنين

خالد وعوض 
أثناسيوس وأنطونيوس,
الاسقف الواعى والراهب المستنير   
نموذج للعلاقة بين البرية والبطريركية
( وان سمعتم صوت التاريخ ’ لا تقسوا قلوبكم وتغلقوا عقولكم)
(Le Monachisme Egyptien Revelateur de l,Ame Copte ,Limoges 2008)
من أهم ما كتب اثناسيوس بعد تجسد الكلمة ’ يجئ كتاب (حياة القديس انطونيوس)Ο Βίος Τού Αντωνίου ,
ومن أفضل الاصدارات العلمية  قاطبة لحياة أفا انطونيوس هو النص اليوناني للسيرة مصحوبا بالترجمة الفرنسية فى سلسلة المصادر المسيحية بما فيها من غنى لغوى ولاهوتى وحواشى غنية وقائمة ضخمة من المراجع 
Sources Chretiennes No 400 
Athanase D,Alexxandrie 
VIE D,ANTOINE 
1994.
ان انتهاء الاضطهاد العسكرى والملاحقات الامنية باعلان ميلانو عام 312 ’ لم ينهى متاعب الجماعة المسيحية الأولى’ بل سرعان ما ظهرت المتاعب الداخلية والانقسامات وبوادر والاضطهاد اللاهوتى المسيس وهنا  حدث أن المسيحيين الذين هربوا الى البرية ’ أحبوها وأشتاقوا للعيش فيها وترجوا أناسا يبحثون عن القداسة وحياة المسيحيين الأولى كما قرأوها في الانجيل .وبدأت تظهر الرهبنة كقوة روحية عفوية وبلا تنظيم كنسى ولاهوتية تشارك في صنع الاحداث وتجذب الناس الى البرية ’ وأحيانا تنزل الى المجتمع لتقف في وجه الظلم وتحث على العدل  وتبشر بانجيل السلام . أنتهى عصر الاستشهاد بالدم ليبدأ عهد الاستشهاد اليومى بضمير صالح نحو الله حسب انطونيوس .ظهر بوضوح نية الحكومة القنسطنطينية فى السيطرة على الكنيسة في  مصر  بوزنها السياسى والاقتصادى واللاهوتى فى المسكونة يومها . ويذكر قول من أقوال الأباء الشيوخ (أبوثيجماتا) بأن الملك قنسطنتين أرسل رسالة الى الراهب المتوحد الشيخ (جيروندا) أفا أنطونيوس ليذهب الى روما للقائه ’ هنا سأل أنطونيوس تلميذه أفا بافلوس . فرد بافلوس بأنه اذا ذهبت للقاء الملك ستصير (انطونيوس فقط ) بينما اذا بقيت في قلايتك وخلوتك ولم تذهب ’ ستظل أفا أنطونيوس !!!أدرك التلميذ النجيب بأن الدعوة ليست روحية خالصة. ما يعنينا هنا هو أن أثناسيوس اراد من علاقته بانطونيوس أولا ’ ان يقدم دليلا حيا على صدق رؤيته اللاهوتية للانسان المتأله والمتقدس فى المسيح ’ الانسان المتأقنم بالحب والنسك والكلمة واخلاء الذات’ الانسان الكونى الجديد والمخلوق حسب صورة الله والمتجدد حسب ايقونة المسيح  . هذا يؤكده الفارق التاريخى بين الكتابين ’ تجسد الكلمة وحياة انطونيوس وهو عشرون عاما والتى كانت كافية لكى يؤسس اثناسيوس علاقة روحية ولاهوتية وإنسانية حميمة بالأباء الشيوخ  فى البرية المصرية وكان يزورهم طوعا وساجدا وطالبا كلمة منفعة او لاجئا  طالبا الهدوء من مطاردات أمن الدولة البيزنطية وأحيانا كثيرة مترقبا زيارات نعمة الروح القدس ليكتب لاهوتا انسانيا رصينا. وثانيا أن يستأثر الرهبنة القوة الغشيمة من يد السلطة والهيجان والاوجاع الى فكر المسيح واللاهوت والفكر والعبادة بالروح والحق والشهادة بالحياة . أراد وربما لاول مرة  فى التاريخ الكنسى ان يوحد اللاهوتى مع الناسك والقلاية مع المكتبة والركب المنحنية  مع القلم النازف دما لا حبرا ’ والبرية مع البطريركية بلا اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ولا تزييف . وقد وجد فى أفا انطونيوس وتلاميذه  الشخص المناسب لطموحاته اللاهوتية والانسانية  . كتب اثناسيوس (تجسد الكلمة) فى عام 337 م بينما كتب حياة انطونيوس فى سنة 357 م بفارق عشرين سنة . ما يهمنا هنا هو العلاقة الروحية الانجيلية والشركة الوجودية اللاهوتية بين اثناسيوس الاسقف وانطونيوس المتوحد .علاقة سوية بين راهب ناسك ساجد وبطريرك مستنيرتائب  كفيلة بان تغير وجه التاريخ الانسانى والوطنى وليس فقط التاريخ الكنسى . ان من يقرأ بعناية (حياة انطونيوس ) لاثناسيوس يدرك بلا معاناة ان هذه السطور لم تكتب فى مكتب اسقفى او قصر بطريركى أوسيارة مكيفة وفى أجواء دفاعية رخيصة ورديئة ’ كما يقول الفرنسيون !بل وسط سكون البرية حيث دعا الروح الراهب والاسقف  لكى "يداعبهم في البرية" من خلال   المعايشة الشخصية لرهبان البرية وخاصة أفا انطونيوس وتلاميذه . الاسقف اللاهوتى يعمد فكره ومعارفه وثقافته  فى دموع ونسك وتجرد وحب أباء البرية المصرية . جمعهم حب المسيح  والخلوة والشهادة وعشق الكلام الالهى واحتضان العالم بشجونه وهمومه وأماله . يقول لنا الباحثون بأن اثناسيوس قد استخدم أكثر مائتين شاهد كتابى فى سيرة انطونيوس أي أن الاسقف أراد السيرة انجيلية حقا وقد كانت . ويؤكدون بأن هناك أوجه شبه كبيرة بين (تجسد الكلمة ) و(حياة انطونيوس ).
 
هذا معناه  أنه لا يوجد نسك واخلاء ذات ورهبنة بلا تجسد للكلمة في الكيان  ولا احساس واختبار للتجسد بلا نسك وترك واخلاء وأمحاء للذات الامارة بالسوء(راجع :الاساسات اللاهوتية للاختبارات الروحية للاب جون رومانيديس منشورة على صفحتنا .
 
 ساد فى القرون الاولى وخاصة الرابع خطر كبير على وحدة الكنيسة نتيجة أولا صلح الكنيسة مع العالم وتحول الكنوت الى سلكة تضارع سلطة الحكام الذى كثيرا ما كانوا يخطبو ود رجال الكنيسة !والنتيجة التوتر الكبير بين الراهب الخارسماتيك فى البرية والذى يمتلك مواهب الشفاء وسبر غور النفوس وبين والاكليروس المكلفون بتمثيل السلطة السائدة سواء كنسية أو حكومية. ولقد ذهب بعض المؤرخين الى أن أحد أسباب هروب المسيحيين الى الصحراء ونشأة الرهبنة هو النتائج المخربة لهذا الصلح بين الكنيسة وروح السلطة والتسلط ! حركة احتجاج لاهوتية وروحية سلمية وعلمانية بلا كهنوت !   لقد تم لقاء اثناسيوس وانطونيوس فى عنصرة جديدة نرجوها للكنيسة المصرية في هذه الأيام العصيبة التي تمر بها ’ حتى تعود البرية الى بهائها والكنيسة الى مجدها أمين.