«أن تأتى متأخرًا خير من ألا تأتى أبدًا»، انتصر الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، أخيرًا لمدرسة العقل، وقال لا فض فوه: «إن الدعوةَ لتقديسِ التراث الفقهى ومُساواتِه بالشريعةِ الإسلاميَّةِ تُؤدِّى إلى جُمودِ الفقهِ الإسلامى المعاصر، كما حدث بالفعلِ فى عصرِنا الحديثِ؛ نتيجةَ تمسُّك البعضِ بالتقيُّدِ- الحرفى- بما وَرَدَ من فتاوى أو أحكامٍ فقهيَّةٍ قديمةٍ كانت تُمثِّلُ تجديدًا ومواكبةً لقضاياها فى عصرِها الذى قِيلَتْ فيه، لكنَّها لم تَعُدْ تُفيد كثيرًا ولا قليلًا فى مُشكلاتِ اليوم...».
 
أحسنت قولًا يا مولانا الطيب، انتظرناها من فضيلتك طويلًا، قال بمثل قولكم كثير من العلماء، وتوفر على تأصيل القول منهم أجلاء مقدرون، واجتهد تجديدًا ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، وقاسوا الأمرين من سطوة مدرسة النقل على العقل، سجنًا فى الأقبية المظلمة، وتشريدًا فى المنافى البعيدة، وتفريقًا بين المرء وزوجه فى المضاجع!
 
الْإِمَامُ الْأَكْبَرُ مُجَدِّدًا، لن يسلم من عنت مدرسة النقل التى سيطرت طويلًا ومديدًا على العقل، وكبحت وذبحت كل محاولات التجديد اجتهادًا، وخاصمت مستحدثات العصر وقوانينه عنادًا، وأخرت النقلة الاجتهادية زمنًا.. كنا أحوج إليها حاجتنا إلى تجدد المياه فى نهر الحياة.
 
شيخ الأزهر الطيب حسم أمره ابتغاء مرضاة الله، متوكلًا على الله بإرادة أزهرية خالصة تناغمًا حميدًا مع دعوة رئاسية معتبرة ومبكرة من الرئيس السيسى، الْإِمَامُ لا يضع عمامته فوق مِشْجَب فى الجوار.. مِشْجَبه وراء باب الأزهر الشريف.
 
للأسف، أضعنا سنوات سِمَانًا كان يمكن استثمارها، ولكن الندم لا يؤدى إلا إلى إبقائنا عالقين فى فخ الماضى، معلوم البعض يتعمد أن يكسر الكأس ويسكب اللبن، كى يمارس هواية البكاء على اللبن المسكوب.
 
اختار الإمام الطريق سالكة إلى التجديد الدينى، بإحالة عميقة إلى الإمام محمد عبده تحديدًا، وهو، رحمه الله، لم يَرْحَلْ إلا بعدَ أنْ مَلَأ أسماعَ المسلمين شرقًا وغربًا بأنَّ شريعةَ الإسلامِ أوسعُ وأرحمُ بالناسِ من الأحكامِ الفقهيَّةِ المأخوذةِ حَصْرًا من المذهبِ الحنفى، مذهبِ دولةِ الخلافةِ آنذاك، دُونَ سائرِ المذاهبِ الأخرى.
 
ورُغْمَ ذلك ظلَّ الوضعُ على ما كان عليه قبلَ الإمام وبعدَه: جُمودًا وخوفًا من تحمُّلِ مسؤوليَّةِ التغييرِ فى أوضاعٍ ارتبطت بالشريعةِ قُرونًا متطاولة.
 
مولانا الطيب كان الله فى عونه يركب الطريق الواعر، المهمة صعبة وتحتاج إلى تضافر جهود المجتهدين، واصطفاف المستنيرين داخل وخارج المؤسسة، طالما الطريق واحدة وواضحة المعالم.
 
لا نملك ترف المزايدة على انفتاح الإمام ممثلًا للأزهر الشريف، ومترجمًا لأشواق المستنيرين متسقًا مع أحلام التواقين إلى عصر من الاجتهاد المبنى على قواعد دينية راسخة ولا يخاصم عصرًا.
 
الإمام يحتاج عونًا ومؤنة ليقطع الطريق إلى منتهاه، قاطعًا الطريق على المتمترسين، مولانا يستبطن المعنى ويقول صريحًا: «حين نقرأ كلام أَئِمَّةِ الفِقْهِ نجد تَحْذيرًا واضِحًا ونَهْيًا صَرِيحًا عن التَّقْليدِ، باعْتبارِه طريقًا يُفْضِى- لا مَحَالَةَ- إلى الجُمُودِ وقَتْلِ مَلكةِ التَّفكيرِ والإِبْداعِ».
 

حسنًا فتح الإمام الأكبر باب الاجتهاد على مصراعيه، بشجاعة العالم، ونفرة المجتهد، واجتهاد الفقيه، طوبى للمجتهدين.