بقلم: فيفيان سمير
شرد بنظراته داخل الوهج المتراقص لشمعة تحمل الرقم 17، اليوم عيد زواجهما السابع عشر وقد فاجأهما ولديهما باحتفال صغير، يجمع أفراد أسرتيهما المقربين. سبعة عشر عاما، يبدو ذلك اليوم بعيدا كحلم مرق دون أن ينتبه له. حارت عينيه بين ذلك الرقم المشتعل، يلقى بظلاله على صورة زفافهما، المعلقة لأثنين يبدوان غريبين عليه، والمرآة المواجهة لهما تعكس صورة أثنين مختلفين تماما، وإن كانا يحملان نفس الملامح، وبين هذين الشيخين الجالسين على مقربة منهما، يطعم أحدهما الأخر، يتهامسان يبتسمان يتحسس كل منهما يد الأخر ويقبلها وهي في طريقها إلى فمه، كشابين مازالا مخطوبين وليس كزوجين مضى على زواجهما أكثر من خمسين عاما.  

خمسون عاما يدق جرس الباب لتسرع بفتحه، تحمل عنه ما يحمله من طلبات البيت وحقيبة أوراقه، حتى تتحرر ذراعيه لتطوقاها، ويطبع قبلة شوق على وجنتيها المدرجة بالحمرة تتلهف للمسة شفتيه، خمسون عاما يحلو لها أن تطعمه أول لقمة قبل أن تبدأ أكلها، وتنتظر منه أول لقيماتها. حين يتشاجران أو يختلفان تجلس على أريكتهما المفضلة تنساب دموعها في هدوء، فلا يستطيع هو احتمال حزنها، كطفل يتقرب من أمه، يلقى برأسه المتعب على حجرها، فتتسلل أصابعها تلقائيا بين خصلات شعره، تمسح عنه أوجاعه وهموم يومه، ثم تنحني تقبل جبينه، فيبتسم ويحتضن كفها يقبله، ولا يعودان يتذكران أنهما اختلفا أو من منهما كان المُخطئ. لم تمل من تدليله كطفلها وتحمل عنه ومعه متاعبه وعثرات الحياة المتجددة، ولم تكتفى من الدلال عليه كأبنته التي تذوب أحزانها وأوجاعها على صدره، حتى بعد أن تجاوزا السبعين من عمرهما. لم يخجلا يوما من الاعلان عن تلك المشاعر التي فاضت على أولادهما، لتنتج أنفس سوية تعرف قيمة الحياة وتقدرها وترغبها. لم تكن الحياة سهلة أو يسيرة لكنها كانت تمضي بسند أحدهما للأخر، كلما ضعف وشارف على السقوط تلتقطه يد حاضرة لا تغيب عن معاونته. كان أبنًا لمنظومة حب وتفاهم في جنة والديه، أغترف منها وتشبع بها وفجرت قدراته وملكاته ومواهبه إلى أقصى حدودها، وتمنى أن يعيشها مع شريكة حياته وينعم بها أبنائه.  

كان صديق عمره دائم التعليق على علاقة والديه المختلفة والمتميزة، والتي تشع دفئا وسعادة، تنعكس على أولادهما وكل من يدخل بيتهما، فطاقة الحب المنطلقة في الهواء، تصيب كل من يتنفسه وتتغلغل في نفسه، لتغسل ما قد يكون عالق بها من هموم أو أحزان، فيما كان يفتقد هو تلك المشاعر في أسرته حيث أم صارمة جادة، لا يعرف قاموسها كلمات الحب والتدليل لزوجها أو حتى أولادها. دائمة القاء الأوامر وتوجيه النقد وعلى الكل السمع والطاعة وحسب. كان يعوض ذلك الحرمان بالالتصاق بصديق عمره واسرته، التي لا تعرف سوى الحب الغير مشروط والغير محدود. كانت أخت ذلك الصديق رقيقة، كأوراق وردة تتفتح للحياة، خجولة مرحة رغم أن عينيها تحملان غلالة حزن أسرة، تحرك شيئا مجهولا داخله كلما رآها. كان يعلم أن جفاف حياتها واحتياجها للحنان والحب، الذي تفتقده، يثيران رغبته في احتوائها وتعويضها وحين تقدم لخطبتها، لم تتردد لحظة في قبوله، حديث عينيها كان يشي له بفرحتها ورغبتها فيه وإن لم تنطقها بشفتيها.

كان ينتظر ممن حرمت من الحنان الأسري أن تغرق فيه حين يتاح لها وتستعذب متعته، وتفيض به شلالا على كل من حولها‏، ففوجئ بالعكس من ذلك تماما‏. المشاعر جريمة لا تقبلها والتعبير عنها خروج عن الأداب العامة والأخلاق، سواء في العلن أو حتى فيما بينهما. حين كانت تسحب يدها من يده أثناء فترة الخطوبة كان يبرر ذلك بالخجل، وحين كانت تصمت أمام كلمات الحب منه ولا تعبر بأي ردة فعل، كان يعتبر أنه مازال غريبا عنها وذلك سبب صمتها. لم تدرك أن ما تفعله يستنزف رصيد الحب الذي امتلأت به خزائن قلبه لها، وأنها تتحول شيئا فشيئا إلى وجود قد يسمى عشرة، أو جزء من صورة مجتمعية، أو ربما حتى مجرد "أم الأولاد"، لكنها ليست حبيبة ولا زوجة فقد نفذت أهم مقومات تلك العلاقة، فالحب الأخرس لا يعبر عن نفسه ولا يعلن عن وجوده فلا يراه أحد حتى يموت. لم يكن يتخيل أن تكون حياته بهذا الجفاف والجفاء، خالية من كل أنواع المشاعر المختلفة التي أعتدها، جامدة حد التصلب.  

هي زوجة مثالية وأم حنون على أولادها، كما يقول الكتاب، الكتاب المشوه بمفاهيم ومعتقدات تعتنق فكر التزاوج من أجل استمرار النوع، وليس من أجل نعمة الشركة ومتعة الحياة، فهي نسخة مكررة من والدتها. حادة الطبع ولحظات صفائها نادرة. تمارس كل شيء بنظام وبمعاد لا يقبل التغير أو التعديل. الخطأ يقابل بعقاب أضعاف حجمه، بل أنه غير مسموح بالخطأ من الأساس، حتى علاقاتها الإنسانية محسوبة وخاضعة لنفس المعايير، فساءت علاقتها بأولادها وتوترت علاقتها بأهله الذين أصبحوا يتجنبونها، فهم موضع انتقاد دائم منها، خاصة والديه فشكل علاقتهما لا يليق بسنهما وطبيعة المجتمع، هذا من وجهة نظرها بالطبع.

هوياته غير مسموح بممارستها بالمنزل، حتى لا يُأثر ذلك على اهتمام أبنائهما بدراستهما، فالهوايات يجب أن تكون ذات نفع مباشر، وإلا فلا قيمة لها بل هو أهدار للوقت وتشتيت للقدرات. الموسيقى والرسم والفن، هوايات سيئة السمعة في رأيها، ولأنه يهواها، وضعت الكثير من الحواجز بينه وبين أبائه، لتجنب تأثيره السيء عليهما، كتقييمها، لكنه كان حريصًا على اقتلاعها، ولو بينه وبينهما، ودون علمها أحيانا، ومشاركتهما كل هواياتهما بحرية بعيدا عن قيودها، بل وتشجيعهما عليها أيضا، مما كان سببا لخلافات لا حصر لها بينه وبينها، وأصبحت حياته سلسلة متصلة من النكد، والصراع الخفي حول من تكون له اليد العليا في البيت والأسرة‏.  فقد رضخ لسياستها المتعسفة، وقرر تجنب الصدام معها، واكتفى من الحياة بما تجود به على هامشها، الذي أنذوى فيه، بعد أن أدرك‏ أن الصبار الذي ينمو في أرض جدباء لا ينبت عادة زهورا جميلة، إلا فيما يخص أبنائه، فهما كل ما يربطه بالحياة حاليا، ومن أجلهما يحتمل هذا الوضع الذي يرفضه شكلا وموضوعا، لكن استقرارهما وسلامهما هو كل ما يعنيه ولن يقبل به بديلا.     

خرج من شروده، فكل الأنظار مسلطة عليهما ويجب أن تكتمل الصورة، رسم ابتسامة مصطنعة ووضع ذراعا حول كتفها وبالأخرى أحتضن أبنه الأصغر بينما أبنه الأكبر يلتقط الصورة حاشرا نفسه بينهم.