مصطفى حجازي. 
فى أحد أيام شهر مايو من عام ١٩٤٠ ومع انفجار أتون الحرب العالمية الثانية فى أسوأ مراحل تمكّن النازى.. وقف الملك جورج السادس وأمامه رئيس وزرائه آنذاك «آرثر نيفيل تشامبرلين» مقدمًا استقالته.. وليدور بينهما حوار له دلالته ومغزاه.. حوار يبدؤه الملك مستفسرًا عمن يقترحه حزب المحافظين خلفًا لتشامبرلين المستقيل..
الملك: ومن اخترتم خلفًا لك.. لورد تشامبرلين..
تشامبرلين: نرشح «ونستون تشرشل» يا صاحب الجلالة..
الملك: ولكنى لا أريد تشرشل.. أنا أفضل أن يكون «الفايكونت هاليفاكس» هو رئيس الوزراء القادم..
تشامبرلين: يا صاحب الجلالة، تشرشل هو الشخص الوحيد - للأسف - الذى قبلت المعارضة أن تلتئم فى حكومة وحدة وطنية تحت رئاسته.. فهم يرفضون قيادتى ولا يثقون بقدراتى..
الملك: ولكنى لا أستطيع العمل مع تشرشل.. فهو متسرع وسيئ التقدير، ولا تنسَ كارثة جاليبولى التى أحدثها فى الحرب العالمية الأولى..
تشامبرلين: ولكنه كان محقًا فى رأيه عن نوايا هتلر العدوانية..
الملك: يا عزيزى.. الساعة المعطلة تكون محقة فى تحديد الوقت مرتين فى اليوم..
تشامبرلين: للأسف يا صاحب الجلالة.. هذا هو الخيار الوحيد الذى يضمن تشكيل حكومة حرب قابلة للأداء فى تلك الأوقات العصيبة..!
حوار بهذه المعانى كان يجرى يا سادة فى وقت كانت بريطانيا - تلك الإمبراطورية العريقة - على شفا الغزو من قوات الاحتلال النازى التى عصفت باستقلال أوروبا كلها.. حوار يقف فيه «الملك جورج السادس»، صاحب الحق شبه الإلهى فى الملك، وكأنه يستجدى رئيس وزرائه المستقيل فى أن يرشح له رئيسًا للحكومة، يستطيع أن يتعامل معه بسلاسة..!
بل ويعدد له من الأسباب الموضوعية التى يرفض بها (أى الملك) ترشيح الحزب.. فلا يملك رئيس الوزراء أن يُبَدِّى رغبة مليكه على رأى الجماعة الوطنية ويمضى فى إقرار اختيار الحزب.. فينصاع الملك صاحب الصولجان لاختيار حكومة الشعب المنتخبة.
كل الحجج التقليدية التى يمكن أن تُسَوِّغ الاستبداد بالرأى أو التفرد بالحكم كانت حاضرة لدى جورج السادس، كيف لا وهو الملك ذو الحق شبه الإلهى.. كانت أوقات حرب عصيبة.. كان واردًا أن يتشكك فى قدرات كل من حوله.. كان له أن يرى فى نفسه الإلهام والصواب والقدرة على الحكم.. كان من حقه أن يقول هذا ملكى وملك آبائى ولن أترك لأحد أن يحكم ويتحكم فيه وأنا على قيد الحياة..!
لم يفعل جورج السادس أيًا من ذلك.. وهو إمبراطور تكاد ملاءة عرشه تغطى نصف الأرض حينها من الهند وأستراليا شرقًا، إلى كندا غربًا، إلى جنوب إفريقيا جنوبًا.
لم يفعل لأنه واع بأن قيمة الملك فى عزة الوطن، لا فى شبق الملك ولذة العرش.
لم يفعل لأنه يعرف أن الملك والسلطة والعرش لا تورثه بالضرورة أهلية الحكم.. فعليه من أجل عرشه وملكه ووطنه أن يولى الأمر أهله حتى وإن كرههم، حتى وإن حمل نفسه حملًا على القبول بهم.. فكأنه امتثل لقول الرسول الكريم «من ولَّى الأمر غير أهله فقد خان الله ورسوله».
الأهم أن جورج السادس لم يمتثل فقط لضميره وحُسن إدراكه ولكن قبلهما امتثل لدستور الحكم فى بلاده، ولم يُخلّ بدوره فى العقد بينه وبين شعبه.
والآن.. وفى ذات الزاوية من التاريخ من أربعينيات القرن الماضى.. مَلِكٌ آخر على أرض طيبة طيعة.. حديث السن، موفور الحظ.. فى مجتمع يفور بالتطلع للحداثة.. مجتمع يملك ناصية قياد إقليمه علمًا وثقافة وسياسة واقتصادًا.. ولكنه يمارس الملك على نحو نقيض.. هو فاروق الأول، ملك مصر والسودان.
يقول كريم ثابت - المستشار الصحفى للملك فاروق الأول وأحد أهم المقربين له طوال عشر سنوات، هى سنوات نضج الملك - متحدثًا عن علاقة القصر بالحكومة أو الملك برئاسة الوزراء.. (وهى لأمانة المقارنة ذات الزاوية التى أطللنا منها على الملك البريطانى وقت حرب عصيبة)..
«عَلَّمُوه وهو لم يجاوز العشرين بعد.. أنه يستطيع بجرّة قلم أن يقيل وزارة تتمتع بأغلبية برلمانية، وعَلَّموه أنه يستطيع بإشارة أن يدعو زعيم المعارضة إلى تأليف وزارة جديدة وأن يُقصيه عن الحكم بإشارة أخرى، وعَلَّموه أنه يستطيع (بنطق سام) أن يعيّن رئيس ديوانه (المستقل) رئيسًا لوزارة حزبية برلمانية، وعَلَّموه أنه يستطيع بمشيئته أن يفرض أى رجل آخر على هذه الوزارة ليكون رئيسًا لها..!».
ويستطرد كريم ثابت فى مذكراته قائلًا: «وعلى هذه الصورة لقنوه الدروس الأولى فى معنى الدستور..
بل تعلم ما هو أدهى وأخطر..
تعلم أنه يستطيع أن يفعل هذا كله دون أن يعارضه أحد، ودون أن يقاومه أحد.!».
هكذا كان يمارس فاروق الملك بسلطة مطلقة فوق الدستور، الذى يحدد دوره شأنه شأن جورج السادس وكل ملك دستورى أو حاكم طبيعى.. احتقر فاروق - من فوق عرشه - دستور مصر وبالتبعية احتقر المصريين من حيث أراد أم لم يرد.. بوصف أقرب مقربيه.
احتقر الشعب واحتكر الحكم.. ثنائية لم تخب فى انهيار كل عرش مهما ظن أنه مستقر ودائم..!
كان مَرَدَّ ذلك عنده أنه لا يثق فى أحد.. ولا يرى أحدًا كفؤًا لإدارة دولته وحفظ ملكه..
هو وحده يعلم.. وهو وحده يفهم.. وهو وحده يؤتمن.. هكذا ظن المليك الخائب..
كره جورج السادس بعض من حوله ولم يخفهم.. بينما خاف فاروق كل من حوله وكرههم..!
ما حُرم منه جورج السادس فى أن يمرر رأيه - ناهينا أن يفرضه - فى اختيار رئيس وزرائه.. استمتع فاروق به وبكل ما يفوقه.. فكان المآل أن حُرِم فاروق ملكه بفرط السلطة، وأن أدام جورج السادس ملكه ورقّى بلاده بدستورية محدودية السلطة.
الأكثر إيلامًا.. أن مَن حُرم لم يكن فاروق وحده ولكن مصر ذاتها حُرِمت..
حُرِمت فرصتها للارتقاء دون تعثر أو اصطدام أو تجارب تقطع من لحمها الحى.. تجارب ننتكس فى دوائرها ولا ننهض وكأننا استعذبنا الجنون.
لكل المتطلعين إلى الاستقرار وإلى حياة هانئة فى وطن يصون.. وكلنا هُم.. أُهدى هاتين القصتين لملكين من القرن الماضى.. ولسلوكهما ولمآل سلوكهما.. وفى القصتين سر واحد..!
ولكل هؤلاء أستحلفهم بالله أن يطلعونا على السر إن عرفوه.. سر الاستقرار والترقى.. وهو ذاته سر التخبط والانهيار السرمدى..
وليعتبروها من فوازير الشهر الفضيل.. رمضانكم كريم..
فَكِّرُوا تَصِحُّوا..