بقلم: فيفيان سمير
صباح غائم منذ لحظاته الأولى بسحب الشر الجاثم على صدور أبناء المحروسة، وآن له أن ينفض. لكنه يأبى أن يرحل في سلام، مُقْسمًا أن يأخذ معه جزءًا من القلب المشقوق بالفعل لذلك الوطن. جلس يراقب الاحداث التي تتصاعد وتيرتها بمرور الدقائق، انتبه انها ليست جالسه الي جواره كعادتها في الأشهر الأخيرة، بعد ان اعجزتها الام عظامها عن الحركة الدائمة كسابق عهدها، لم يشغل باله بها فقد استغرقت المشاهد الدامية على شاشة التلفاز كل تركيزه. أخذ يتابع ما يحدث على بعد بضع كيلومترات منه، وكأنه ببلد بعيد لا يعرفه ولا يعرف أهله، البادية وجوههم أمامه بملامح غريبة وتعبيرات حقد وكره، لم تكن يوما تطل بهذا الشكل المخيف من وجوه أهل بلده. أصوات صراخ وعويل، ألسنة نيران وأدخنة سوداء تتصاعد حاجبة وجه الشمس ليُظلم النهار، طلقات رصاص تتطاير زخات، تعربد بصدور أب وأبن وأخ وزوج، تقتل أسر بأكملها، توأد أحلام وتنزع الأمان من قلوب من خلفوهم هؤلاء المدرجون بدمائهم، لتزرع الحزن بطول الوادي وعرضه.  

وقف ذلك الضابط الشاب يصرخ في المعتصمين للخروج من الطريق الآمن خاصة وأن المكان يمتلئ بالنساء والأطفال، ومع خروج دفعات منهم كان يحمد الله أنه لم يضطر لاستخدام سلاحه، إلى أن ظهر أحدهم، تتعلق بذراعه سيدة ويحمل طفلا على ذراعه الأخرى وبحوزته سلاحًا ناريًا، تراجع الضابط خطوات وصوب سلاحه في أتجاه الرجل، مطالبا أياه أن يلقي سلاحه ويخرج في سلام مع أسرته، لكن الرجل شَخَصَ، بعينين كارهتين تحملان نيران غدر مشتعلة، تجاه الضابط الذي لم يخطأ لهيبهما المستعر المُنطلق كطلقات رصاص إليه، فظل قابضا على سلاحه المصوب ليد الرجل حاملة السلاح، لكن نفس اليد على ذراعها طفل يرتعد مما يحدث حوله، وينتفض في حركات عصبية محاولا الاختباء داخل صدر أبيه الذى ظنه أمانًا، يبكي ويتجلى على ملامحه كل معاني الخوف والرعب. أب قَبِلَ على نفسه أن يحتمي بجسد طفله الصغير، الأمانة التي أودعها الله بين يديه وهو يخونها بدم بارد، ويتجرد من أبسط مشاعر الأبوة التي يمارسها حتى الحيوانات، بدأ الرجل في التحرك باتجاه الضابط في خطوات بطيئة، يستحثه أن يطلق عليه النار، وهو ما يفرضه عليه واجبه وتقضي به التعليمات في لحظة كهذه، لكن ضميره معلق بتلك العيون البريئة الدامعة وحركة ذلك الطفل الغير مستقرة الصارخة طلبا للنجاة، كان يعرف أن تردده حفاظا على حياة ذلك الصغير ثمنها حياته هو، لكنه أختار أن يكون أنسانًا.

أسرع أحد الجنود بسحب الضابط المصاب بعيدا وخلع عنه قناعه، لتظهر قسمات شاب شحبت بانسحاب الحياة منها، مع كل قطرة دم خطت قصيدة دينا يطوق عنق الجالسين بغرف مترفة غاضين الطرف،  بينما الجالس خلف شاشة التلفاز ينتفض متألمًا، يمر امامه شريط يحمل علامات عمر قصير، لطفل بين يدي ابيه بفرحة ميلاد، لأول ابتسامة على وجهه الصغير تفتح أبواب الجنة لوالديه، لأول كلمة تخرج من بين شفتيه الصغيرتين يتراقص لها قلب أم وأب، لأول خطوة متشبثا بكف ابيه ثم متمردا راغبا في الجري حر، أول يوم دراسي وفرحة شهادة تلو الأخرى، ثم الكلية وأول نجمة تضوي علي كتفه تخطف قلوب أب وأم بمشاعر متباينة من البهجة والفرح، والخوف على ثمرة تعبهما وتحويشة عمرهما، زهوهما  باصطحابه لطلب من احتلت قلبه وحلمهما بيوم زفافه، عريس يشبع العين ويثير الفخر، ليبدأ حياة جديدة تزينها الأحلام، حياة ذبحتها لحظة.

دخلت زوجته ليستفيق على صرختها المُلتاعة وهي تدق صدرها "يا حرقة قلب أمك عليك يا ابني" فيحتضنها رابتا على ظهرها ودموعه تختلط بدموعها متمتما "الله يرحمه ويصبر أهله ويصبرنا كلنا"

ويبقى السؤال معلقا هل ذلك الطفل سيتذكر يوما من دفع حياته للحفاظ عليه، أم يأخذ مكان أبيه ويحمل سلاحه، مكملا مسيرة الدم الذي لطخ جبين الوطن وأحنى هامته، فمازالت الأصوات الناعقة بالكراهية تعلو وتنفث سموم الحقد على رؤوس الأشهاد.