ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
7 ـ جيل التأسيس والمتغيرات العاصفة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان الفضاء المصرى العام يشهد تطورات متسارعة، باتجاه الخروج إلى النهار، فقد تأسست الجامعة المصرية الحكومية ـ مع اطلالة العقد الثانى من القرن العشرين ـ فى تزامن مع ولادة جيل قدر له أن يلتحق بالتعليم الأساسى النظامى، وحين ينتهى منه يتطلع الى الالتحاق بتلك الجامعة الواعدة، فيشدون رحالهم الى القاهرة، وتعرف اقدامهم الطريق الى كنائس القاهرة والجيزة، بعضهم يطرق ابواب الأحزاب وتتعثر خطواته، فيوجه طاقاته وأحلامه فى التحقق الى دوائر الكنيسة.
 
يلتئم أغلبهم حول الأستاذ حبيب جرجس، فيضم بعضهم الى اللجنة العليا لمدارس الأحد، التى تتوسع وتتشعب إلى لجان نوعية، وإلى فروع جغرافية، يرحل الأستاذ عام 1950، وتشهد اللجنة العليا تفاعلات تترجمها مجلة "مدارس الأحد"، وتشهد الكنيسة تباينات هذا الجيل، فى تناول أزمة الكنيسة وقتها، بل وتشهد اللجنة العليا مواجهات بين اطيافها، وينجح الراديكاليون فى الانفراد بالقرار داخلها، فيغادرها من لم يجد نفسه وسط الأصوليين، ويطرقون ابواب التفاعل المدنى المجتمعى، وإن لم يقطعوا أواصر الانتماء مع الكنيسة ويحققون نجاحات علمية ومجتمعية ووظيفية كل فى مجاله.
 
والمتابع لهم يرصد ما حققه الدكتور ميلاد حنا فى كلية الهندسة، وتبنيه مبكراً لإحياء الانتماء المصرى دون استقطاب، وسعيه الدؤوب للمصالحة بين رقائق الشخصية المصرية عبر التاريخ، والدكتور المستشار وليم سليمان قلادة فى مجلس الدولة، ويذكر له ما قدمه للكنيسة فى ترجمته وتحقيقه لأحد أهم الكتب الكنسية التراثية القانونية، الدسقولية، ومقدمته الضافية التى تعد بحثاً فى القانون الإدارى الكنسى، والدكتور مراد وهبة فى الفلسفة، وقدرته على نقل نظريات الفلسفة المنعزلة الى دائرة اهتمام الشارع، ومواجهاته التى تصدت لأركان الذهنية الارهابية وأسهمت فى تفكيك قواعدها الفكرية العاتية. ويذكر له تصديه بجسارة، فى خضم الحرب الباردة، بين القوتين العظميين آنذاك ، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى، لمحاولات الغرب استقطاب الكنيسة المصرية واخضاعها للمد الأمريكى آنذاك.
 
طيف ثان اختار أن ينتهج طريق التكريس، فانطلق عام 1958، كان فى مقدمته ، نصحى عبد الشهيد ـ كلية الطب، كمال حبيب ـ كلية الآداب، يسرى لبيب، كلية التجارة، وينضم اليهم العشرات من الشباب الجامعى، يتفقون على تأسيس "بيت التكريس" بأحد احياء القاهرة "حدائق القبة" ثم ينتقلون به بعد عام إلى الضاحية الهادئة ـ وقتها ـ حلوان، وتنطلق منه رسالة جديدة تسعى للشباب تقدم لهم قراءة ميسرة فى كنيسة الآباء وتخرج من كنوزهم ما احتفظت به خزائن المخطوطات اليونانية والقبطية، فى كتيبات صغيرة. ، بعد أن احتمى ثلاثة منهم بالرهبنة هرباً من الضغوط التى تعرض لها البيت الى حد تحريض الأجهزة الأمنية ضد بيت التكريس، الذى يعود مجدداً إلى حدائق القبة. ولعل هذا يلقى ببعض الضوء على جذور الصدام الأشهر فى الكنيسة مع دير انبا مقار الذى قصده هؤلاء المكرسون طلباً للرهبنة. كان فى مقدمتهم الاستاذ يسرى لبيب (الأب باسيليوس المقارى).
 
كان الأب متى المسكين هو الأب الروحى لهذه المجموعة ولبيت التكريس، وكان يرى :
[أن بيت التكريس يجب أن يكون سنداً للكنيسة ومعاوناً لها بصفته مركزاً للخدام العلمانيين فى الكنيسة التقليدية، فنحن نكرِّم الكهنوت ونخضع له ونعاونه فى خدمة النفوس. وأنا أرى ـ والكلام مازال للأب متى المسكين ـ أنه بدون خدمة العلمانيين (أى من هم من غير الرهبان أو الإكليروس) بهذه الصورة فستنهار خدمة الكهنوت وتنهار كرامتها فى نظر الأجيال القادمة، لأن الكهنوت إبتدأ من الآن (منتصف القرن العشرين) فى عدم القيام بواجبه. فى الكنيسة الأولى كان الموهوبون من أعضاء شعب الكنيسة هم الذين يقومون بالخدمة، بينما الأسقف هو الذى يرتِّبهم ويرعاهم، وكان الكهنة خداماً للأسرار الكنسية. فلما تشددت الرهبنة ابتلعت الخدمة والخدام من أعضاء شعب الكنيسة (يطلق عليهم خطأ اسم "العلمانيين" وهو الإسم الدارج للكلمة اليونانية لاؤس) وهكذا ترك العلمانيون الخدمة للرهبنة. ولما ضعفت الرهبنة ضعفت الخدمة، كما أصبح العلمانيون لا يقومون بعملهم ولا يعرفون مسئولياتهم فى الخدمة].
يتمسك الدكتور نصحى عبد الشهيد، ببقاءه علمانياً وبمواصلة البيت لرسالته، فيعود ادراجه الى مقره القديم بحدائق القبة ليبدأ مرحلة جديدة، وينأى بنفسه وبخدمته وبالبيت، بجَلَد وإصرار، عن صراعات تلك الفترة، ولا يشتبك فى أية معارك، متسلحاً بالصمت المطبق، فقد أدرك مبكراً أهمية رسالة التكريس التى نذر نفسه لها.
 
يخطو بيت التكريس خطوة للأمام بأن يضيف إلى اصداراته المترجمة عن اللغات الحية، اصدارات آبائية مترجمة عن "يونانية الآباء"، ويذكر الدكتور نصحى فى كلمته التى القاها فى مناسبة مرور ثلاثون عاماً على تأسيس مؤسسة القديس انطونيوس للدراسات الأبائية الأرثوذكسية، والتابعة لبيت التكريس لخدمة الكرازة، تواصله مع صديقه القديم المطران اليونانى الأب دميانوس رئيس دير سانت كاترين، ومعه الأستاذ صموئيل كامل عبد السيد، استاذ اللغة اليونانية، وكان على علاقة وثيقة بحكم التخصص العلمى بالمستشار الثقافى للسفارة اليونانية بالقاهرة، سعياً لتوفير منح دراسية فى جامعات اليونان لطلاب المؤسسة، حيث الجامعات الأرثوذكسية التى تعج مكتباتها وأروقتها الأكاديمية بالمخطوطات والدراسات الآبائية المتخصصة، فينصحهما المستشار الثقافى اليونانى بالتواصل مع مطران دير سانت كاترين، نظراً لأن البعثات الرسمية تحكمها بروتوكولات مع الجامعات المصرية فقط، وقد يجدون عند الأب المطران مدخلاً أخر لطلبهما، وكان المطران صديقاً للدكتور نصحى منذ كان راهبا بالدير وقبل أن يتولى مسئوليته كمطران، فيذهبا إليه، ويتطور الأمر إلى أن ويسافر الدكتور نصحى مع الأب المطران، إلى اليونان، (مايو 1980)، وينجح فى ترتيب سفر المبعوثين باتفاق مع الخارجية اليونانية يتوسطه الأب المطران، وبين مؤسسته، التى لم يكن قد مضى على تأسيسها سوى عام واحد (1979)، ويتوالى سفر المبعوثين من شباب الأقباط وعودتهم ومعهم حصيلة دراساتهم وقد حصلوا على إجازات علمية رفيعة "دكتوراة فى العلوم اللاهوتية".
 
وفى تزامن يؤسس الارشيدياكون رمسيس نجيب بيت الشمامسة بالجيزة، ليكون حاضناً للشباب الجامعى من المغتربين، ويتبنى توعيتهم وبنائهم الفكرى والروحى عبر ما يقدمه من محاضرات وما يصدره من كتب تتناول مشاكل الشباب فى المرحلة الجامعية بمنظور مسيحى معاصر، وفى حوار اجراه الصحفى النابه روبير الفارس، نشرته جريدة وطنى مع الأرشدياكون رمسيس نجيب يقول "هذا البيت تخرج منه عدد كبير من الأساقفة والكهنة الذين يخدمون الكنيسة بالروح والحق وأيضاً عدد كبير من العلماء أذكر منهم الدكتور جورج بشرى حنا الثانى فى العالم فى جراحة المناظير والدكتور رفيق يوسف المستشار الاقتصادى الكبير وغيرهم الكثير.".
 
وحين سأله المحاور وماذا عن إصدارات البيت؟
قال : (اتخذت أسلوباً بسيطاً فى الاصدارات التى ينشرها “بيت الشمامسة” وهى أن تضع للقارئ المعلومة من خلال قصة تدخل “قلبه” وبهذا المنهج تجد سلسلة “فضائل فى حياة القديسين” التى منها كتب “المحبة والعفة” وهناك أسلوب التساؤلات الشبابية فالقارئ اليوم يحتاج إلى “سندوتش” ومن خلال خدمة الشباب طوال هذه السنوات تكررت عندى الأسئلة التى يطرحونها فالموضوعات تدرس عشرات المرات، مما يعطى خبرة كبيرة فى مجال الأمور الاجتماعية… ويظهر ذلك فى كتب “طهارتى" و "الاختلاط"… وإلى جانب ذلك هناك كتب عامة مثل: “معاملات المسيح مع الخطاة”… والمهم فى الكاتب أن يحترم بالأساس ثقافة الاختلاف.. وأذكر عبارة جميلة تقول: “كان عندى 5 أولاد ربيتهم بالأحرى تربيت على أيديهم، وهذا هو الأب والخادم والقسيس الناجح فالذى يعلمه هو نفسه يتعلمه.)
 
ويكشف الارشدياكون فى حواره عن سر نجاح وصمود بيت الشمامسة بكلمات قليلة: (لقد أخذنا موقف الحياد مع دراسة جميع الحلقات الدراسية من كل الاتجاهات ولا نقبل أن نقع تحت طائلة أحد. فأعلم الشماس أن “الجيزة محايدة” وكان أبونا صليب سوريال يقول أنا “لا شنودى ولا صموئيلى ولا متاوى” وبذلك نأخذ الجوانب المضيئة من الكل ولو أخذت كل كنائس الكرازة بهذا المنهج لم نكن نرى الاختلافات “وأنا لبولس وأنا لأبولوس” أى ليس هناك شيع… فحب الكل خذ من كل واحد الحاجة الحلوة إللى فيه ومنطق الحياد جعلنا محل إقبال من كل الأساقفة كمدرسة تعد الخدام.).
 
بقى فى اللجنة العليا لمدارس الأحد مجموعة اتجهت اغلبها إلى الأديرة والرهبنة، فى توقيتات مختلفة، ولأسباب مختلفة أيضاً، وخرجوا منها إلى دوائرة قيادة الكنيسة، وتراوحت العلاقات بينهم من الحميمية والتحالف إلى المصادمة والصراع، فى مناخات عامة شديدة التقلب القت بظلالها على خريطة الخدمة، وهو ما سنعرض له بعد استعراض التكتلات التى شهدتها ساحة مدارس الأحد فى الجيزة وشبرا والاسكندرية وغيرها.