تمتاز مصر عن غيرها من بلدان العالم بأن من يفدُ عليها من الجنسيات الأجنبية، يقعُ في حبِّها سريعًا، ويذوبُ في عشقها، ثم يصيرُ من أبنائها، وكأنه سُحِر بها. كثيرون جاءوها سعيًا وراء الرزق، أو للبحث والدرس.. أو لغير ذاك من الأسباب، لكنهم امتزجوا بالملايين من أبنائها، وانخرطوا معهم في حياتهم اليومية، وصاروا من الأبناء المخلصين، الذين أسهموا في صنعِ تاريخِ "المحروسة".
 
من أبرز هؤلاء مهندسٌ يونانيُ الأصل اسمه "أدريان دانينوس"، كان له الفضل في إنقاذ مصر من الفيضان الذي كانت "تغرق" بسببه كل عام، ثم كان له الفضلُ في حمايتها من العطش بين السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
 
المهندس الشاب هو صاحب فكرة إنشاء السد العالي، وهل ثمَّ إنسان ينكر أهمية دور السد العالى في حماية مصر من أخطار الفيضان والحفاظ على الأرواح والاستثمارات؟!
 
القصةُ يرويها الدكتور "هيثم ممدوح عوض".. ومن البداية، يقول دكتور "هيثم": لا يوجد شك في أهمية دور السد العالى في حماية مصر من أخطار الفيضان والحفاظ على الأرواح والاستثمارات المادية من هذه الأخطار، كما لا يستطيع أي متابع للشأن المائى إنكار دوره الرئيسى في سنوات الجفاف التي عانت منها مصر، خاصة على مدى 9 سنوات، من 1978 إلى 1987، هبط فيها منسوب بحيرة السد قرابة 20 مترًا، وكان دور السد العالى أساسيًّا ومحوريًّا في إمداد مصر باحتياجاتها السنوية، بينما عانت دول منابع النيل في هذه الفترة من جفاف قاس ومجاعات أودت بحياة قرابة 2 مليون، في إثيوبيا وحدها!
 
ويكشف الدكتور "هيثم ممدوح عوض" أن المصريين بدءوا في رصد بيانات إيراد نهر النيل منذ عام 1869، وشهد عام 1913، كارثة، حيث كان إيراد النهر، في ذلك العام، الأقل خلال الـ 146 عامًا الماضية، فقد وصل متوسط إيراد نهر النيل الطبيعى عند أسوان إلى 45 مليار متر مكعب، أي نحو نصف الإيراد الطبيعى للنهر؛ مما تسبب في انهيار الإنتاج الزراعي، وانهيار شامل للاقتصاد؛ مما دعا العلماء المصريين وخبراء وزارة الرى خلال تلك الفترة إلى دراسة سبل التغلب على هذه المشكلة، وتوصلوا إلى 10 أفكار هندسية جميعها تختص بمشاريع في أعالى النيل.
 
ولم يخطر في بال خبراء وزارة الرى خلال تلك الفترة "بلاك.. هيرست.. سميكة"، فكرة مشروع السد العالى.
 
وكانت خلاصة المعرفة المصرية حتى عام 1946 والمؤرخة في المجلد السابع من موسوعة حوض نهر النيل تحت عنوان "المحافظة على مياه النيل في المستقبل"، بأن "السبيل الوحيد" للتعامل مع السنوات الصعبة هو التخزين في بحيرة تانا باعتبار أن النيل الأزرق يعد الرافد الرئيسى المسئول عن إمداد مصر بنسبة 56% من إيراد النهر الطبيعي عند أسوان.
 
وأكد الخبراء الثلاثة هذا المعنى خلال الباب الحادى عشر من هذا الكتاب حيث قاموا بسرد الأرقام وتحليلها وإيضاح أهمية التخزين في أعالى النيل، وبالأخص في حوض النيل الأزرق لوقاية مصر من أخطار الفيضان والجفاف أو للمحافظة على مياه النيل في المستقبل.
 
ويعد هذا المجلد موسوعة إنتاج علمى رفيعة المستوى وكان نتاج دراسات حقلية ومعملية على مدى 30 عامًا، بدأت مع نهاية الحرب العالمية الأولى حتى إصدار هذا المجلد عام 1946، والذي اعتبر في هذا التاريخ معبرًا عن رؤية وزارة الأشغال العامة (الموارد المائية والرى حاليًا) في أهمية العمل على تنفيذ المشاريع العشر الواردة به.
 
ولم تمضِ عدة أشهر منذ إصدار هذا المجلد حتى قام مهندس زراعى مصرى شاب من مدينة الإسكندرية من أصل يوناني، يدعى "أدريان دانينوس"، بإطلاق "قنبلة علمية" يوم 23 أكتوبر 1946، معارضًا أوليات المشاريع العشرة التي طرحها خبراء وزارة الرى ومقترحًا مشروعًا بديلًا عملاقًا بتخزين قرابة 150 مليار متر مكعب من المياه عن طريق إنشاء سد ضخم جنوب مدينة أسوان بستة كيلومترات، ومن هنا نشأت فكرة السد العالى.
 
وما أن طرح "دانينوس" الفكرة حتى تعرض لهجوم شديد من جميع خبراء وزارة الأشغال العامة المصرية في ذلك الوقت، وارتكزت محاور الهجوم على سرد النقاط السلبية والعيوب فقط دون الإيجابيات لهذا المشروع مثل حجز الطمى والتأثير على دلتا نهر النيل ونوعية الأراضى الزراعية المصرية والفواقد العالية للبخر من مسطح البحيرة، حتى وصل تشكيك خبراء وزارة الأشغال العامة لحجم الخزان، وأن إنشاء سد بهذا الحجم لا يمكن تحقيقه، وأن تقديرات أدريان في إمكانية تخزين 150 مليار متر مكعب من المياه مبالغ فيها..
 
وكان المحور الأساسى للنقد الذي تعرض له أدريان هو انخفاض الجدوى الاقتصادية للفكرة مقارنة بالمشاريع العشرة التي تم اقترحها خبراء وزارة الرى في هذه الفترة.
 
وانبرى "أدريان" خلال السنوات من 1946 إلى 1952 إلى استكمال دراساته وعرض هذه الفكرة على خبراء الرى والسدود الدوليين وقام بزيارة خبراء الأمم المتحدة في هذه الفترة ونجح في إقناعهم بأهمية هذا المشروع ومن هؤلاء الخبراء الأستاذ "أوبير" الفرنسى والأستاذ "دى ماركى" من جامعة ميلانو الإيطالية والأستاذ "هوايت" من لندن هذا بالإضافة إلى مهندس إيطالى شهير يدعى "جاليولى" كان مقيمًا بمصر خلال هذه الفترة.
 
ومع قيام ثورة يوليو 1952، استدعى مجلس قيادة الثورة المهندس "أدريان دانينوس"، الذي قام بسرد حساباته ودراساته وعرض المميزات والإيجابيات المتوقعة من جراء إنشاء هذا المشروع، وركز على توليد الطاقة الكهرومائية حيث إن قدرات محطات الطاقة في مصر عام 1952 لم تكن تتجاوز 800 ميجاوات، ومن المتوقع أن تزيد قدرة السد العالى على 2000 ميجاوات.
 
ومع رغبة مجلس قيادة الثورة في إحداث طفرة صناعية مصر قام "عبد الناصر" بتكليف سلاح الجو ووحدات سلاح المهندسين المصرى بإجراء رفع مساحى دقيق للتحقق من تقديرات "أدريان"، وكانت نتائج هذا الرفع المساحى متوافقة إلى حد بعيد معه، وأكدت صحة فكرته، وأن سعة هذا الخزان ستصل إلى 162 مليار متر مكعب.
 
وهنا قرر "عبد الناصر" منح "أدريان" مكافأة مالية سخية ومعاشًا شهريًا كما منحه وسامًا.
 
وعلى الفور تبنى مجلس قيادة الثورة الفكرة وبدأ في الإجراءات التنفيذية وما تبعها من تطورات سياسية ودراماتيكية خلال حقبتى الخمسينيات والستينيات من تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة والتوجه إلى المعسكر الشرقى وتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثى ونهاية بنكسة 1967. كل هذه الأحداث كان محورها السد العالى والرغبة الشعبية والرسمية المصرية في إقامة هذا المشروع من أجل رخاء الشعب المصرى، وانتهى العمل في السد عام 1970.
 
باختصار كان هناك تضارب علمى شديد في مصر من 1946 إلى 1954 بين "أدريان دانينوس" وخبراء وزارة الرى جميعهم في هذا الوقت، انتهى بانتصار "إدريان"، والذي لولاه لكنا دخلنا في المشاريع العشرة المطروحة من عام 1946، لكنه استطاع بكفاءته وإصراره وحبه لمصر إقناع "عبد الناصر" باقتصاديات فكرة السد العالى الذي غير وجه مصر، وكان من أهم إنجازاتها في التاريخ الحديث.
نقلا عن فيتو