فيفيان سمير
كان صوت الموسيقى عاليا صاخبا، فتسللت خارج القاعة تلتمس قليلا من الهدوء فى منطقة استقبال الفندق، خاصة أن الوقت تجاوز منتصف الليل، والمكان خالي من القادمين والراحلين.

المكان ليس بغريب عليها، قضت فيه أوقات مازالت محفورة داخلها بعلامات قاومت الزمن، بل ربما زادها الزمن بريقا وتوهجا. تغير المكان كثيرا عن أخر مرة كانت فيه، لكنه مازال يحمل رائحة لقائتهما ورنين أحاديثهما، وسحر احساس تملكهما حينها، ومازال منزويا في مكانا ما داخلها لم يغادرها حتى اللحظة، كافتيريا الفندق، الشاهد على تلك الذكرى.  

لم تستطع مقاومة حنينها للجلوس بنفس المكان، وطلب نفس المشروب، "فنجان القهوة المظبوط"، فهي لن تنام الليلة في كل الأحوال، فلا بأس من استعادة الذكرى كاملة، أسندت ظهرها لمقعدها وهامت داخل تلك الايام.

هي تهوا الفن وهو صانعه وكان من الطبيعي لقائهما. اجتازت طريقا طويلا مرهقا، حققت حلمها بأن تكون مهندسة ديكور، ساعدتها موهبتها في أثبات مهارتها في وقت قصير، واستطاعت تأسيس مكتب خاص بها وهي في الثلاثين من عمرها. انغمست في عملها ولم تلتفت إلى أنها تجاوزت الخامسة وثلاثين ولم ترتبط، فكل القصص تنهيها قبل أن تبدأ، وهي سعيدة بحياتها كما هي، قوية مستقلة، ترفض الخضوع لسطوة مجتمع يعتبرها سلعة، لا تكتمل قيمتها إلا برجل.

هو عاشق للحياة متمرد على قوانينها، ساخر إلى حد الاستهانة بكل الثوابت والفروض، ضاربا عرض الحائط بقطار العمر الذي يمر سارقا أيامه، مكتفيا ببصمة أبداعه على جبين الزمن، بأعمال فنية تخلد أسمه، وتثبت أنه مر يوما من هنا، ورغم كل هذا الأقدام الذي يبدو عليه، إلا أنه كسائر البشر يخفى ضعفا لا يقاوم.

بحكم عملها وهوايتها كانت ترتاد المعارض الفنية كثيرا، وعند إحدى اللوحات تقابلا، اختلفا على رؤية الفنان لموضوع اللوحة، ولم تكن تعلم أنه هو صاحب التوقيع على هذا العمل، لم يخبرها بالحقيقة لكنه وعدها بلقاء مع الرسام لتخبره برأيها، وتناقشه في وجهة نظره، ولأنها معجبة بمجمل أعماله أسعدها هذا الوعد فوافقت. لكن كان هناك سبب آخر يدفعها لمقابلة هذا الغريب محدثها ثانية، والذي أدعى أنه مجرد معجب وصديق لراسم اللوحة. أحساس غير مفهوم وغير مبرر خطفها وأبقاها داخل هذا اللقاء العابر، أما هو فبدأت مشاعره تخونه وتهاجر إليها دون حساب، تلك الجميلة صعبة المراس، رافضة الإنحناء حتى لطبيعتها كأنثى. حين استسلمت وسلمت لسلطان ذلك الطارق واستغرقت في متعة الغياب داخل تلك المشاعر التي تجتاحها وتفتقدها بشدة، كان ضعفه هو قد تملكه، الخوف المرضي من المسؤولية والهروب من الرتابة التي تقف كشبح يتربصه في الظلام، فهو طائر حر لو سلم لقيد مهما كان مات .

"الفنان لا يبدع دون حرية، والمسؤولية قيود تكبله وتقضي عليه"، هكذا أخبرها في هذا المكان، حيث كان أخر لقاء، هرب من البقاء إلى جوارها، رفض أن يعيش الأنسان ويهدد الفنان ولو قليلا.

لم يكن باستطاعتها أن تقول له أنه جعلها هي تستمتع بالحياة، وأنها قد أدركت في النهاية مدى قوة انفعالاتها كامرأة. وأكتفت بأن غزلت ابتسامة من خيوط الآمها تخفي بها ضعفا قاومته، وقالت في استغناء مصطنع "وداعا" وأحست بأن لفظة الوداع حكم اصدرته علي نفسها بأن تعيش وحيدة طوال حياتها . وهمس هو في سخرية قبل أن يطلق يدها "ايتها الجميلة عودي الى موطنك وأسكني أحلامي، وأبقي علي صهوة ريشتي خيالا يستدعي إلهامي". أحست فجأة ببرودة قاسية ومخيفة، وبوحدة مرعبة تحتوي روحها الراحلة معه .

لم تراه بعد ذلك إلا من بعيد لمرة واحدة، كضيفة بأحد معارضه، وحرصت ألا يراها، فلم يكن يستحق حتى مجرد الاحساس بذاته لأنها تتألم وتشتاق لرأيته ولو من بعيد. رفعت حقيبتها لصدرها تحتضنها بقوة تدفن ذلك الألم الذي يرتع بروحها، طوت جناحي الحزن علي ذلك العصفور حبيس صدرها المطعون بسكين الفراق، واستدارت راحلة دون أن تلقى ولو نظرة أخيرة خلفها.

إذا كان القلب يذوب بمتعة الممارسة الأولى لمشاعر الحب، وينتشي بلذة اكتشافه ومعايشته، وينصهر بانقباضاته عند الميلاد، وينكسر حين ينتهي، فإنه يترك أثار مروره، وإن عبرنا لحيوات أخري، في ركن بعيد لا يطاله الزمن مهما طال.  

ارتشفت قهوتها الأقل مرارة من الذكرى العابرة بطرف واقعها، وعين خيالها تراه مازال وحيدا بتلك الغرفة الصغيرة الممتلئة باللوحات، دائمة الشبابيك المفتوحة، لينازع صهيل الريح صوت الموسيقى الصاخبة التي لا تتوقف كمن يملئ بها فراغا داخله، وفرشاة الوانه بين أسنانه يحاول أن يلون بها حياته، التي حكم عليها أن تظل حبيسة الأبيض والأسود فقط. انتبهت لصوت يناديها يخرجها من ظلمة تلك الذكرى ويعيدها لأجمل ما في حياتها "حبيبتي... العروسة بتدور عليكِ، والمعازيم بيسألوا فين أم العروسة.... وأنت هنا بتشربي قهوتك بمزاج طيب كنتي قوليلي أشربها معاكي". نهضت من مكانها، وابتسامة فرح تنير وجهها، لتدفع يدها ترقد في أحضان كفه وتجيبه "مُره... متستهلش... طعم الفرح أحلى".