إعداد / نجيب محفوظ نجيب.

ولد العلامة أوريجانوس في الإسكندرية من أبوين مسيحيين حوالي عام 185 م. 
 
أهتم به والده ليونيدس Leonides فرباه و هذبه بمعرفة الكتاب المقدس، وقد أظهر الأبن شغفًا عجيبًا في هذا الأمر. 
 
يُقال إن والده كثيرًا ما كان يقف بجانب أبنه وهو نائم، ويكشف صدره كأن روح الله قد أستقر في داخله، ويقبله بوقار.
 
عاصر الأضطهاد الذي أثاره الأمبراطور سبتيموس ساويرس عام 202 م.، والذى كان أكثر عنفًا على الكنيسة المصرية، حتى ظن كثيرون أن هذا الاضطهاد هو علامة على مجىء  "ضد المسيح".
 
أُلقيّ القبض على ليونيدس ووضع في السجن، أما أوريجينوس الذي لم يكن بعد قد بلغ السابعة عشر من عمره فكان يتوق بشغف إلى إكليل الإستشهاد مع والده. 
 
وفي اللحظة الحاسمة منعته أمه من تحقيق رغبته بإخفاء كل ملابسه حتى يلتزم البقاء في المنزل ليرعى شئون أخوته الستة. فأرسل إلى أبيه يحثه على الاستشهاد، قائلا له: "أحذر أن تغير قلبك بسببنا".
 
إذ صودرت ممتلكات ليونيدس بعد استشهاده صار العلامة أوريجانوس وعائلته في عوز و فقر، لهذا ألتجأ إلى سيدة غنية رحبت به، لكنه لم يحتمل البقاء كثيرًا، لأن معلمًا هرطوقيًا يدعى بولس الإنطاكي استطاع أن يؤثر عليها ببلاغته فضمته إلى بيتها، وتبنته، وأقامته فيلسوفًا خاصًا بها، وسمحت له أن ينشر هرطقته بإلقاء محاضرات في بيتها.
 
لم يستطع أوريجينوس وهو بعد صغير السن أن يشترك في الصلاة مع هذا الهرطوقي متمسكًا بقوانين الكنيسة، فترك البيت وعكف على تدريس الأدب الدنيوي والنحو لينفق على نفسه وعلى عائلته.
 
وجد أوريجانوس في تدريسه للوثنيين الأدب والنحو فرصته للشهادة للإيمان المسيحي قدر ما تسمح الظروف، فكان يعلن عن مركز اللاهوتيات بين الكتابات اليونانية، وبهذا أجتذب أوريجانوس بعض الوثنيين الذين جاءوا يطلبون أن يسمعوا منه عن التعاليم المسيحية من بينهم بلوتارخس الذي نال إكليل الاستشهاد وأخوه هيراقليس (ياروكلاس) الذي صار بطريركًا على الإسكندرية.
 
إذ تركت مدرسة الإسكندرية بلا معلم بسبب الأضطهاد، ورحيل القديس أكليمنضس الإسكندري، عين البابا ديمتريوس أوريجانوس رئيسًا للمدرسة وهو بعد في الثامنة عشرة من عمره.
 
أوقف أوريجينوس كل نشاط له وباع كل كتبه الثمينة المحبوبة لديه، لكى يكرس حياته بالكامل للعمل الجديد الذي أوكل إليه كمعلم للموعوظين.
تتلمذ على يديه تلاميذ كثيرون نذكر منهم القديس ألكسندروس أسقف أورشليم الذي كان يتطلع إلى أوريجانوس كمعلمه وصديقه.
 
ألقى العلامة أوريجانوس بنفسه بكل طاقاته لا لدراسة الكتاب المقدس والتعليم به فقط، بل وفي تقديم حياته مثلًا للحياة الإنجيلية. 
في هذا يقول القديس غريغوريوس العجائبي: "لقد جذبنا بأعماله التي فعلها أكثر من تعاليمه التي علمنا إياها".
 
أتسم أيضا بالحياة النسكية مع ممارسة الصلاة لكونها جزءًا لا يتجزأ من الحياة النسكية، تسنده في تحرير النفس ودخولها إلى الاتحاد مع الله بطريقة أعمق. يرى في الصلاة أمرًا ضروريًا لنوال نعمة خاصة من قبل الله لفهم كلمة الله.
 
رأى أن الإنسان يطلب الاتحاد مع الله خلال حفظ البتولية، فينسحب عن العالم وهو بعد يعيش فيه، مقدمًا تضحية في أمور الترف قدر ما يستطيع، محتقرًا المجد البشري.
 
وبسبب حضور النساء لكى يستمعن محاضراته، ولكي لا تحدث عثرة رأى أن ينفذ حرفيًا ما ورد في الإنجيل أن أناسًا خصوا أنفسهم من أجل ملكوت الله (مت 12:19)، لكنه يبدو أنه قدم توبة على هذا الفعل. 
 
في البداية ركز أوريجانوس على إعداد الموعوظين وتهيئتهم للعماد، لا بتعليمهم الإيمان المسيحي فحسب، وإنما بتقديم التعاليم الخاصة بالحياة المسيحية العملية أيضًا.
 
لم يقف عمل العلامة أوريجينوس عند تهيئة الأعداد الضخمة المتزايدة الجالسة عند قدميه لنوال سر العماد وإنما كان عليه بالحري أن يهيئهم لقبول إكليل الاستشهاد. فكل من يقترب إليه كان يجري نحو خطر الاستشهاد.
 
أهتم أوريجانوس بتعميق الفكر الدراسي؛ فإذ كان تلاميذه يلتفون حوله من الصباح حتى المساء رأى أوريجانوس أن يقسمهم إلى فصلين، واختار تلميذه هيراقليس المتحدث اللبق لكى يدرس المبتدئين المبادئ الأولى للتعاليم المسيحية، أما هو فكَّرس وقته في تعليم المتقدمين اللاهوت والفلسفة معطيًا أهتمامًا خاصًا بالكتاب المقدس.
 
أعظم أثر لأوريجينوس على مدرسة الإسكندرية كان إبرازه التفسير الرمزي للكتاب المقدس. فقد كَّرس حياته كلها لهذا العمل، حتى نسب هذا المنهج التفسيري لمدرسة الإسكندرية ولأوريجانوس.
 
حوالي عام 212 م. زار أوريجينوس روما في أثناء أسقفية زفيرينوس Zephyrinus، وفي حضرته ألقى القديس هيبوليتس مقالًا عن كرامة المخلص، وبعد إقامة قصيرة هناك عاد إلى الإسكندرية.
 
قام بعدة رحلات إلى بلاد العرب، أولها حوالي عام 214 م.، حيث ذهب إليها بناء على دعوة من حاكم تلك البلاد الذي كان يرغب في التعرف على تعاليمه، كما دُعيّ إلى العربية عدة مرات لكى يتناقش مع الأساقفة. 
 
حوالي عام 216 م.، إذ نهب الإمبراطور كاركلا Caracalla مدينة الإسكندرية وأغلق مدارسها واضطهد معلميها وذبحهم، قرر أوريجينوس أن يذهب إلى فلسطين. هناك رحب به صديقه القديم ألكسندر أسقف أورشليم كما رحب به ثيؤكتستوس   Theoctistus أسقف فلسطين، اللذان دعياه لكى يشرح الكتاب المقدس للشعب في حضرتهما.
 
غضب البابا ديمتريوس الإسكندري جدًا، لأنه حسب عادة الكنيسة المصرية لا يستطيع غير الكاهن أن يعظ في حضرة الأسقف، فأمره بعودته إلى الإسكندرية سريعًا، فأطاع وعاد، وبدت الأمور تسير كما كانت عليه قبلًا.
 
مع بداية حكم الأمبراطورأسكندر ساويرس (222-225 م.) أرسلت مامسيا Mammaca والدة الإمبراطور حامية حربية تستدعي العلامة أريجانوس لإنطاكيا يشرح لها بعض الأسئلة، وقد استجاب للدعوة ثم عاد إلى مدرسته.
 
أرسل العلامة أريجينوس إلى اليونان لضرورة ملحة تتعلق ببعض الشئون الكنسية، وبقيّ غائبًا عن الإسكندرية. 
 
ذهب إلى آخائية ليعمل صلحًا، وكان يحمل تفويضًا كتابيًا من البطريرك. وفي طريقه عبر بفلسطين، وفي قيصرية سيم قسًا بواسطة أسقفها. فقد بدا للأساقفة أنه لا يليق بمرشد روحي مثل أوريجينوس بلغ أعلى المستويات الروحية والدراسية يبقى غير كاهن. هذا وقد أرادوا أن يتجنبوا المخاطر التي يثيرها البابا ديمتريوس بسماحهم له أن يعظ وهو "علماني" في حضرتهم.
 
وقد أعتبر البابا هذه السيامة أكثر خطأ من التصرف السابق، حاسبًا إياها سيامة باطلة لسببين:
1. أن أوريجينوس قد قبل السيامة من أسقف آخر غير أسقفه، دون أخذ تصريح من الأسقف التابع له.
2. إذ كان أوريجينوس قد خصى نفسه، فهذا يحرمه من نوال درجة كهنوتية، فإنه حتى اليوم لا يجوز سيامة مَنْ يخصي نفسه.
 
لم يحتمل البابا ديمتريوس هذا الموقف فدعا لانعقاد مجمع من الأساقفة والكهنة بالإسكندرية.
 
رفض المجمع القرار السابق مكتفين بإستبعاده عن الإسكندرية. 
 
لم يرض البابا بهذا القرار فدعا مجمعًا من الأساقفة وحدهم عام 232 م.، قام بإعلان بطلان كهنوته وإعتباره لا يصلح بعد للتعليم، كما أعلن عن وجود بعض أخطاء لاهوتية في كتاباته.
 
كتب البابا ديمتريوس الإسكندري القرار إلى كل الإيبارشيات، فدعا بونتياس أسقف روما Pontias مجمعًا أيّد القرار، وهكذا فعل كثير من الأساقفة، فيما عدا أساقفة فلسطين والعربية وآخائية وفينيقية وكبدوكيا الذين رفضوا القرار.
 
أضطر أوريجانوس أن يدافع عن نفسه ضد الاتهامات الخطيرة التي وجهت ضده. 
 
حثه أسقف قيصرية على إنشاء مدرسة للاهوت هناك، رأسها قرابة عشرين عامًا، فيها تتلمذ القديس غريغوريوس العجائبي لمدة خمسة أعوام.
 
خلال الأضطهاد الذي أثاره مكسيميان ألتجأ أوريجانوس إلى كبادوكية قيصرية، في هذا الاضطهاد أُلقيّ القبض على صديقيه القديمين: أمبروسيوس وبروتوكتيتوس كاهن قيصرية، ووضعا في السجن. 
 
كتب أوريجينوس إليهما مقالا: "الحث على الاستشهاد"، نظر فيه إلى الاستشهاد كأحد البراهين على صحة الحق المسيحي، وكاستمرار لعمل الخلاص.
أطلق سراح صديقيه وعاد أوريجينوس إلى قيصرية فلسطين.
 
سافر أوريجانوس إلى أثينا عن طريق بيلينية، حيث قضى عدة أيام في نيقوميديا، وهناك تسلم رسالة من يوليوس أفريقانيوس، يسأله فيها عن قصة سوسنة إن كانت جزءًا أصيلا من سفر دانيال، وأجابه أوريجانوس برسالة مطولة بعثها إليه من نيقوديمية.
 
وفي أيام داكيوس ديسيوس Decius (249- 251)، ثار الاضطهاد مرة أخرى، أُلقى القبض على أوريجانوس. تعذب جسده، ووضع في طوق حديدي ثقيل وأُلقيّ في السجن الداخلي، وربطت قدماه في المقطرة أيامًا كثيرة، وهدد أن يعدم حرقًا.
 
أحتمل أوريجانوس هذه العذابات بشجاعة، وإن كان لم يمت أثناءها، لكنه مات بعد فترة قصيرة، ربما كان متأثرًا بالآلام التي لحقت به.
 
قبل أن يموت أرسل إليه البابا الإسكندري ديونسيوس الذي خلف هيراقليس، رسالة "عن الاستشهاد"، لعله بهذا أراد أن يجدد العلاقة بين العلامة الإسكندري أوريجينوس وكنيسة الإسكندرية.
 
وفي عام 254 م. رقد أوريجانوس في مدينة صور بفلسطين وكان عمره في هذا الوقت 69 عامًا، وقد أهتم مسيحيو صور بجسده أهتمامًا عظيمًا فدفنوه إزاء المذبح وغطوا قبره بباب من الرخام نقشوا عليه: "هنا يرقد العظيم أوريجينوس"، تاركًا تراثًا ضخما من تفاسير الكتاب المقدس، مقدمًا منهجه الرمزي في التفسير، وإن كان قد ترك أيضا بلبلة شديدة في الكنيسة بسببه حتى بين الرهبان سببت إنقسامات ومتاعب لا حصر لها.