فاطمة ناعوت
يأتى شهرُ رمضان، فلا يشبه أىّ شهر آخر يمرُّ على مصر. ولا يشبهه أىُّ رمضانَ آخرَ يجولُ العالم. يتفق المسلمون، وغيرُ المسلمين على أن لرمضانَ فى مصرَ طعمًا مميزًا، ونكهةً لا مثيلَ لها فى أية دولة أخرى. ما السبب؟ إنه سرُّ المصريين الخاص، منذ آلاف السنين، قبل نزول الرسالات. تعويذةٌ تصبغُ الأشياءَ بلون مصر، وتسبغُ على الأيام طعمَ النيل والحياة. إنها فرادةُ المصريين فى صناعة الفرح، وامتلاكهم مَلَكةَ «الاحتفال». المناسباتُ الدينية عندنا هى مناسبةٌ للحياة. فتلتقى السماءُ والأرضُ فى مقطوعة موسيقية بديعة، ليست تشبه المقطوعاتِ السماويةَ الخالصة، ولا المعزوفات الأرضية الخالصة. مزيجٌ فريد. فقط فى مصرَ، يأتيك من السماء، صوتُ «سيد النقشبندى» عند الفجر يشدو: «قلْ اِدعُ اللهَ، أو اِدعُ الرحمنَ، أيًّا ما تدعوه فله الأسماءُ الحُسنى»، ثم يأتيك عند المغرب شجوُ «محمد رفعت» مؤذّنًا، فلا تُخطئُ صوتَه بين ألف صوت عداه. تخرجُ، فتجدُ الشوارعَ غارقةً فى اللون والضوء والصَّخب. فكأنك فى عيد قوامُه ثلاثون ليلةً متّصلات، ليغدو أطولَ عيد فى التاريخ. الناسُ فى بلادى ساهرون لا يعرفون النومَ فى ليالى رمضان. يتجاوزون الفجرَ، وينتظرون حتى ينسلَّ الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسود. هو الشهرُ الذى لن تميّز فيه المسلمَ من المسيحىّ. فالكلُّ يحتفل، كأنه شهرٌ «مصرىُّ قبطىُّ»، وليس «إسلاميًّا» وحسب. المسيحىُّ يصومُ مع المسلم، لأنه يؤمنُ أنه لا يليقُ أن يشبعَ وأخوه جائع. وإن باغته أذانُ المغرب وهو فى الطريق، سيجد الصِّبيةَ والصبايا يستوقفونه مبتسمين يلوّحون له بأكياس الخير والماء. يفتح زجاج سيارته ويتناول كأسَ العصير وحبّاتِ البلح لكى «يكسر صيامه». فإن ابتسمَ قائلا إنه مسيحىّ، قد يُفاجأ بأغربَ ردٍّ فى الوجود: «ونحن أيضًا، كل سنة وأنت طيب!» يحدث فقط فى مصر، أن يقفَ شبابٌ مسيحيّون ليسقوا مسلمين صائمين، زارهم المغربُ وهم خارج بيوتهم. زرتُ العديدَ من بلاد العالم العربى فى رمضان. رمضانُ هناك صامتٌ خامدٌ لا يختلفُ عن بقية شهور العام. رمضانُهم لا يشبه رمضانَنا. رمضانُنا حىُّ يتكلمُ ويغنّى ويزغرد. الشارعُ المصرىّ يعرفُ كيف يستقبلُ شهرَ الصوم بما يليق به. لذلك يحبّنا رمضانُ ويحبُّ أماسينا وسهراتنا. يحبُّ صوتَ محمد رفعت حين يرفعُ الأذانَ وقت المغرب، بعدما يتأكد أن كلَّ الشوارع قد انفضَّ الناسُ عنها، ليتحلّقوا حول أكواب الخُشاف على موائد الإفطار، وبعدما ينطلقُ المدفع من قنوات الإذاعة المصرية. صوتُه العميقُ الآتى من مسارب الجنّة يجعلُ الزمنَ يتوقفُ، والأرضَ تسكنُ عن دورانها. الأرضُ تنتبه أن تلك اللحظةَ ليس من شبيه لها فى الدنيا بأسرها. لأن لا مكانَ بكل الدنيا مثل مصر الجميلة.

ونحن صغار، كنا نجمع قروشنا النحيلة لنشترى الورقَ الملوّن والصمغ ونسهر مع أطفال الحىّ لنصنع زينة رمضان. لم ننتبه، إلا حين كبرنا، أن نصفَ أطفال شارعنا من صنّاع الزينة مسيحيون. رمضانُ بهجةُ الجميع، وصلاةُ الجميع لإله واحد نعبده جميعًا، كلٌّ عبر رؤيته. نحبُّه كما أحبَّنا وخلقنا وجعلنا شعوبًا وقبائلَ لنتعارفَ ونتحابّ ونتآخى. دمُ المصريين وعِرقنا العريق، لا يعبثَ به العابثون. فهذه مصرُ التى حيّرتِ الدنيا بفرادتِها.

قُبيل رمضان ٢٠١٣، الذى أعقب ثورتنا الخالدة فى ٣٠ يونيو، وقفتُ على مِنصّة الاتحادية أمام قصر الرئاسة الذى كانت تحتلُّه عصابةُ الإخوان، وألقيتُ كلمة للحشود الهادرة التى نزلت تطالب بإسقاط الإخوان، ثم هتفتُ فى ثقة هى من عند الله: (رمضانُ القادم بلا إخوان بإذن الله تعالى) واستجاب الرحمنُ لرجائى ورجاء ملايين المصريين، وعاد لنا وجهُ مصرَ الناصعُ الكريم. وتوالتِ السنواتُ الطيباتُ فى إثر السنوات، وفى كل يوم وكل ساعة نشهدُ تنميةً ونهوضًا حقيقيًّا فى مصر الحديثة، يصنعُها الرئيسُ/ «عبدالفتاح السيسي» الذى أنقذ مصرَ من ويل حقيقىّ مُخيّم، ليُعيدَ لمصرَ نصوعَها وبهاءَها. وبإذن الله تعالى، سوف يمدُّ الله يدَه الكريمة ليزيح كابوس «سد إثيوبيا» بحلول دبلوماسية ناضجة، دون عنف لا نسعى إليه. وكلى إيمانٌ بأن الله سوف يُلهم الجانبَ الأثيوبىّ الصوابَ ورجاحة العقل فلا يجورُ على حقّ مصر والسودان فى الحياة، ولا يُجبرنا على حلول عسكرية ستكون خسائرُها وبالًا على الجميع. غدًا الثلاثاء، أول أيام شهر رمضان الكريم. أعاده اللهُ على العالم أجمع بخير وفرح ورغد وأمان وسلام. كل عام وكل العالم فى سلام. كل عام وهذا الكوكب المنذور للمحن والأحزان، أكثر سلامًا ومحبة وتحضّرًا ورقيًا وعِلما وإيمانًا. ‫«مولاى إنّى ببابكَ قد بَسَطتُ يدى، مَنْ لى ألوذُ به إلاكَ يا سَنَدى؟». «الدينُ لله، والوطن لمن ينثرُ المحبةَ على وجه الوطن».

twitter:@fatimaNaoot
نقلا عن المصرى اليوم