(1907- 1969 )
بقلم/ماجد كامل
يعتبر الأب هنري عيروط (1907- 1969 ) واحدا من الرواد الأوائل الذين أهتموا بتنمية القرية المصرية ؛ ومازال كتابه الرائد "الفلاحون" يعتبر واحدا من أهم الكتب التي كتبت عن القرية المصرية رغم مرور أكثر من 80  عام علي صدوره( صدرت الطبعة الأولي منه باللغة الفرنسية عام 1938 ؛وتمت ترجمته إلي اللغة العربية عام 1942  كما سوف نري في نهاية المقال)  . أما  عن هنري عيروط نفسه ؛  فلقد ولد  في 20 مايو1907 من أسرة من أصل سوري نزحت إلي مدينة القاهرة خلال عام 1818 ؛وكان والده ويدعي حبيب عيروط يعمل  مهندسا معماريا فأهتم يتعليمه وتثقفيه أفضل تعليم متاح في عصره ؛فألتحق  بمدرسة العائلة المقدسة للآباء اليسوعين  بالفجالة ؛ثم سافر إلي فرنسا لدرسة علم الاجتماع بجامعة ليون حتي حصل علي درجة الدكتوراة وكانت في موضوع "أخلاق الفلاح وعاداته" ؛ولقد ترجمت إلي اللغة العربية تحت أسم "الفلاحون " وكان ذلك عام 1938 ؛ ؛ثم سيم كاهنا  علي الرهبنة اليسوعية في نفس السنة .  وفي عام 1941 عين مديرا للجمعية الكاثولوكية للمدارس المصرية ؛ثم تولي رئاسة دير الآباء اليسوعين بالمنيا ومدرسة الدير خلال الفترة من (1957 -1959 ) . ثم عاد إلي القاهرة ليتولي رئاسة مدرسة العائلة المقدسة للآباء اليسوعين خلال الفترة من ( 1962- 1968 ) .سافر بعدها إلي الولايات المتحدة الإمريكية لإلقاء محاضرات في معهد دراسات الشرق الأوسط والأدني بجامعة كولومبيا . منحته الدولة وسام الجمهورية من الطبقة الأولي في يوليو 1969 . ولم يكتف في أهتمامه بالقرية المصرية فقط ؛بل أهتم بوضع الفقراء في وسط وجنوب أفريقيا فسافر إلي هذه البلاد للخدمة هناك لتطوير القري الأفريقية ؛ ونشر خبرته في هذا المجال في كتاب صدر باللغة الفرنسية بعنوان ( Liaisons Africaines)  نشرته أسرته في كتاب  صدر بعد وفاته عام 1975 ويتضمن ملخصا وتقريرا عن  زيارته لهذه البلاد . ويعتبر  الأب هنري عيروط واحدا من  الرواد الأوائل  الذين دعوا إلي  أهمية الحوار مع الكنيسة القبطية الآرثوذكسية ؛وفي هذا المجال لعب دورا كبيرا جدا في الوساطة بين كنيسة إسكندرية وكنيسة روما  من أجل عودة جزء من رفات القديس مارمرقس الرسول إلي أرض مصر في 24 يونية 1968 إذ سافر إلي روما  خصيصا وتقابل مع قداسة البابا بولس السادس للتفاهم في هذا الأمر  . أهتم أيضا بالحوار المسيحي الإسلامي ؛ وفي هذا المجال شارك مع الأب الراحل جورج شحاتة قنواتي والشيخ الراحل محمد يوسف موسي وفضيلة الشيخ الراحل محمد بدران في تأسيس جمعية أخوان الصفا وكان ذلك خلال عام 1944 ؛والتي تحولت بعد ذلك إلي جمعية الآخاء الديني ومقرها كنيسة سيدة السلام بجاردن سيتي .  .كان أيضا  عضوا مؤسسا بالجمعية المصرية للدراسات الإجتماعية منذ عام 1937 وحتي وفاته ؛ ومرشدا للكشافة المسيحية في مصر في عام 1952 ؛ عين عضوا بلجنة التربية المسيحية بوزارة التربية والتعليم ؛وعضوا بلجنة السياحة الدينية بوزارة السياحة .عين عضوا منتدبا بالمجمع العلمي المصري في عام 1968 . ولقد  توفي فجأة في يوم 10 أبريل 1969 بينما هو يستعد للدخول لإلقاء محاضراته في جامعة كولومبيا  شعر فجأة بإرتفاع  مفاجيء في ضغط الدم  أصيب علي أثره بجلطة في المخ ؛ونقل سريعا إلي منزله ولكنه ما لبث أن توفي بمجرد دخوله المنزل . فتم نقل جثمانه سريعا إلي مسقط رأسه بمدينة القاهرة ؛وأقيمت الصلاة علي جثمانه بالكنيسة الملحقة بمدرسة العائلة المقدسة بالفجالة .وحضر الصلاة مندوبا عن السيد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ؛ ووزير الصحة في ذلك الوقت ؛والأستاذ عادل طاهر وكيل وزارة السياحة ؛ وكبار رجال السلك الدبلوماسي والجمعيات الأهلية والعاملون في مجال الخدمة العامة . ورآٍس  الصلاة علي الجثمان الطاهر الكاردينال أسطفانوس الأول بطريرك الأقباط الكاثوليك في ذلك الوقت ؛ وسفير الفاتيكان بالقاهرة ؛والمطران ألياس زغبي مطران بيروت في ذلك الوقت ؛والأب الراحل المونسينور يوحنا طعمة مدير المدارس المارونية في ذلك الوقت ؛ والقس أديب شماس راعي الكنيسة الأسقفية في ذلك الوقت . وشارك في الصلاة علي جثمانه أيضا من آباء الكنيسة القبطية الآرثوذكسية نيافة الحبر الجليل الأنبا صموئيل أسقف الخدمات العامة والإجتماعية الراحل (والذي أستشهد  مع الرئيس الراحل محمد أنور السادات في حادث المنصة الشهير في 6 أكتوبر 1981 )   ؛ونيافة الحبر الجليل المتنيح  الأنبا دوماديوس مطران الجيزة  الراحل .


لقد آمن الأب عيروط أن التعليم هو خير وسيلة لإصلاح حال الفلاح المصري ؛ وأن الميزانيات الحكومية غير راغبة في   مواجهة هذه المشكلة مواجهة حقيقية  ؛ فقام من فوره بإقتحام الميدان وأخذ في إنشاء المدارس المجانية في القري المحرومة من التعليم ؛فأرتاد هذه القري وعاش بين فلاحيها ينشيء مدرسة تلو مدرسة حتي تجاوز عدد المدارس في حياته  حوالي مائة مدرسة ؛وقام بالإشراف علي الإدارة بنفسه لا يبغي من وراء ذلك أي ربح مادي ؛بل هدفه هو إعادة بناء الفلاح المصري علي نحو جديد يشعره أن بلاده لا تنساه ؛ وأنهم بشر لهم الحق  في التعليم والتثقيف مثل سائر البشر ؛ فأنشأ بذلك جيلا جديدا محب للعلم ؛وبث فيهم روحا جديدة حررتهم من الثالوث الشهير الفقر والجهل والمرض . كما قام الأب عيروط بتأسيس جمعية الصعيد للتربية والتنمية في عام 1941 ؛والهدف الرئيسي لهذه الجمعية هو التطوير الشامل للقرية المصرية ,ووضع لذلك خطة تهدف إلي :-
1- توفير حق التعليم لطفل القرية.  
2- تحسين المستوي الصحي للفئات المستهدفة من أطفال القرية.  
3- تنمية البشر إقتصاديا وثقافيا وإنسانيا ( فيما عرف فيما بعد ب"التنمية الشاملة ")   للقضاء علي الجهل المتفشي في القرية  .

أما عن كتابه الوحيد المترجم باللغة العربية وهو كتاب "الفلاحون " فلقد ترجم إلي اللغة العربية لأول مرة عام 1942 ؛وقام بالترجمة الدكتور محمد غلاب . وبعد قيام ثورة يوليو كلف المؤلف كل من الأستاذ محي الدين اللبان والأستاذ وليم داوود مرقص بالقيام بعمل ترجمة أخري جديدة له بعد أن نقحه وأضاف إليه فصولا جديدة  .  وقدم للكتاب  الكاتب المعروف الأستاذ محمد العزب موسي ؛ وكانت هذه هي الطبعة الثامنة من الكتاب وقد صدرت عام 1968 . ثم قام المجلس الأعلي للثقافة بإعادة طبعه ضمن إصدرات المشروع القومي للترجمة الكتاب رقم 448  وصدرت في  عام 2005 . وكان من بين ما قاله الأستاذ محمد العزب موسي عن الأب عيروط في المقدمة ( والأب عيروط رجل دين ؛شغلته مشكلة الفلاحين ولم يجد فائدة في إلقاء عظة من فوق المنابر ؛بل رأي أن يفعل شيئا من أجل طبقة تؤلف ثلاثة أرباع سكان هذه البلاد .وأحس الأب عيروط أن النجاح مقرون بالاستفادة من الدرس والفحص والعلم ؛فأمعن في دراسة تاريخ الفلاح وتعمق قضاياه الخاصة ؛فجمع لهذه الغاية الوثائق والمستندات ) ولقد ذكر الأب عيروط في مقدمة الكتاب عن الصعوبات التي واجهته فقال ( ونود أن نقول للقراء ؛أننا اعتمدنا في هذا البحث علي ما لاحظناه وحققناه بأنفسنا . وقد أستغرق منا البحث والاستقصاء سنين عديدة ؛كانت فيها المشاهدة والتحري عدتنا ؛ فنحن من مصر ؛ونعيش بين أهلها عيش المواطنين . وقد أمتدت مشاهداتنا وملاحظتنا طوال السنين في مختلف أنحاء الريف ؛ حيث لم ننقطع عن المشافهة والمحادثة والبحث والاستقصاء ووجوب أنحاء البلاد ومخالطة الطبقات حبا في الكشف والاستطلاع حتي جاء بحثنا نتيجة الملاحظة والتأمل الطويلين ...لقد جاء هذا البحث وليد المشاهدة والتحقيق  ) . وفي  هذا الكتاب أيضا  كتب فصلا عن حالة الفلاح بعنوان "بؤس الفلاح " قال فيه  ( يتمثل بؤس الفلاح في صورتين ؛الأولي بؤسه المادي وحرمانه من مقومات حياته الجسمية فهو فقير لا يكاد يجد القوت والملبس والمسكن . أما الصورة الأخري لبؤسه ؛فهي معنوية تتمثل في حرمانه من التعليم  ؛وجهله وذلته وهوانه علي نفسه وعلي غيره ؛حتي أصبح دون المستوي الإنساني من هذه الناحية ..... أي ظلم أفدح ؛وأي وضع أنكي من وضع الفلاح ؟ لقد حرم من نعمة التثقيف والترقية ؛والتربية والتعليم ؛ثم عوقب من ولاة أموره الذين تجب عليهم المسارعة إلي إنتشاله مما هو فيه ... تلك المآسي من فقر وجوع وجهل ومرض ؛من أسبابها التفكك والتمزق وانقطاع الصلة بين البلاد ؛ فبين الوجه البحري والقبلي قطيعة وتباعد ؛ومثل ذلك بين العاصمة وسائر البلاد  ....... الأمر إذن متعلق بإذكاء الشعور الإنساني في نفس هذا الجمهور الشهيد ورفع معنوية أفراده وجماعاته ؛وهذا واجب المثقفين من أبنائه ..... هذه الرسالة السامية ؛هي رسالة المعلمين  ورجال الدين هم قبل غيرهم وهم الذين تدعوهم طبيعة عملهم إلي الاندماج والاختلاط بطبقات الأهلين وكل من يسهل هذه الرسالة ويساعد علي أدائها ؛يؤدي للوطن أنبل وأقدس واجب إنساني ) .