أحمد الجمال
هناك رأيان.. رأى يذهب إلى أن اللغة القبطية هى المرحلة الأخيرة من تطور اللغة المصرية، التى تكلم وكتب بها المصريون القدامى منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، وأنها تنحدر من اللغة المصرية المتأخرة مباشرة- والتأخر هنا ليس بمعنى التخلف، وإنما بمعنى اللاحق- حسبما كانوا يتحدثون بها فى القرن السادس عشر قبل الميلاد، أى مع بداية المصرية الحديثة ضمن التاريخ القديم.

والرأى الثانى- وهو للعالم ماريوس شين- يذهب إلى أن اللغة الوطنية الشعبية لمصر القديمة كانت معاصرة وموجودة مع اللغة المصرية التى لم تكن لغة تخاطب وإنما أُخذت من القبطية واستخدمها الكهنة والكتبة فى الكتابة فقط.. ولمن يريد تفصيلًا أكثر فإن المرجع الذى أنقل عنه هو «تراث الأدب القبطى» للقس الدكتور شنودة ماهر والدكتور يوحنا نسيم يوسف، وقد أشرت إليه تفصيلًا فى مقال سابق.

وعند غزو الإسكندر الأكبر لمصر عام 332 قبل الميلاد، بدأ تأثير مفردات اللغة اليونانية على اللغة القبطية، بعدما تبنت الإدارات الحكومية استخدام المصطلحات اليونانية، وتعلم الموظفون لغة الحكام الجدد، كما تعلمها أهل الإسكندرية بمختلف طبقاتهم، ثم امتد تعلمها ليشمل مدنًا أخرى خاصة فى الوجه البحرى.. وفى هذا السياق خاضت اللغة القبطية الصراع، خاصة أن تأثير اليونانية امتد وبقوة إلى قراءة الأسفار الإلهية فقُرئت بها، وعندئذ تجلى دور الكنيسة المسيحية المصرية فى ظل حبرية- فترة قيادة- البابا ديمتريوس السكندرى 189-232 ميلادية، وهو البطريرك الثانى عشر، الذى أرسى أسس تثبيت الألفباء القبطية، ووضع نظامًا لهجاء الكلمات وللقواعد والأساليب اللغوية، وكانت ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة القبطية قد بدأت فى النصف الأول من القرن الثالث الميلادى على الأرجح، أى قبيل سنة 270 ميلادية، ثم كانت القواعد المنظمة للحركة الديرية، التى تنسب للقديس باخوم، تقضى بأن يقرأ الرهبان الكتاب المقدس باللغة القبطية.

نحن إذن أمام سياق فيه لغة للكتابة هى المصرية القديمة، ولغة للنطق والتعامل العام هى القبطية المصرية، ثم اليونانية لغة الغازى اليونانى التى سادت فى الدوائر الرسمية، ثم شاعت فى المجتمع، ثم لغة خليط القبطية واليونانية، وكان هذا هو المشهد عند الغزو العربى، وظلت مصر تستخدم القبطية والقبطية مع اليونانية، واليونانية وحدها إلى القرن الثانى عشر الميلادى، الذى شهد تحدث معظم بلاد الوجه البحرى، وكثير من بلاد الوجه القبلى تتحدث اللغة العربية، وما إن حل القرن الثالث عشر الميلادى- وفق المرجع المشار إليه- حتى وضع علماء القبط مؤلفاتهم اللاهوتية باللغة العربية، ورغم ذلك ظلت اللغة القبطية لغة تخاطب فى الحياة اليومية فى بعض مناطق الوجه القبلى حتى القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر الميلادى.. والسؤال الذى يجيب عنه المؤلفان هو: ما العوامل التى أدت لاضمحلال اللغة القبطية؟.. وتأتى الإجابة موزعة على نقاط خمس: أولاها تعريب الدواوين سنة 706 ميلادية ومسارعة الكُتَّاب- جمع كاتب- الأقباط لتعلم العربية للاحتفاظ بوظائفهم فى الدواوين، وأيضًا لأن تعلم لغة الحاكم هو الوسيلة للوصول للمراكز القيادية، إضافة لِسِمة تمتع بها قبط مصر وهى سرعة تعلمهم للغات، حيث أصبحت إجادة أراخنة القبط - جمع أرخن، وهى كلمة يونانية تعنى حاكم أو قائد أو رئيس أو ربان، وهو ما يعنى فى عاميتنا المعاصرة «أعيان»، وهم كبار الكتاب- مثالًا يحتذى من شباب القبط الطموح.

وثانيتها تزايد عدد الذين اعتنقوا الإسلام من القبط، بسبب الموجات المتلاحقة من الضغوط الاقتصادية والاضطهاد، وبالتالى ترك اللغة القبطية والاهتمام بلغة القرآن، ناهيك عن الرغبة فى التخلص من ضريبة الجزية التى تشتد وطأتها على من يتمسكون بدينهم.

أما العامل الثالث فقد كان تزايد الاضطهادات خاصة فى أيام الحاكم بأمر الله 985- 1021 ميلادية، الذى أصدر أمرًا بمنع استخدام اللغة القبطية فى الأماكن العامة والدواوين، وأيضًا فى المنازل، وجعل عقوبة قطع اللسان لكل من يستخدمها- حسب المرجع- مما اضطر الأقباط لوضع ستائر على أحجبة الهيكل أثناء التقديس بالقبطية، وأيضا لإقامة الطواحين خارج الكنائس وبالقرب منها لتشغيلها أثناء ممارسة الطقوس، ليغطى صوت ضجيجها على أصوات المصلين.

والعامل الرابع هو اضمحلال المؤسسات الرهبانية نتيجة الضغوط والاضطهادات وأحيانًا التعذيب الذى لحق بالرهبان فى مطلع القرن الثامن.

والعامل الخامس والأخير هو إدخال اللغة العربية إلى الكنيسة بعد أن صارت لغة التخاطب والتعامل اليومى بين الناس، لدرجة أن القانون الثالث من قوانين البابا غبريال بن تريك فى القرن الثانى عشر طالب الأساقفة بتعليم رعيتهم الصلاة الربانية والأمانة المقدسة باللسان الذى يعرفونه ويفهمونه، واستمرت صلوات القداس تتلى بالقبطية، لأن القبط كانوا يعتقدون أن التقديس بالعربية غير جائز شرعًا. واستمر الوضع إلى أواخر القرن التاسع عشر حين بدأ بعض الكهنة ترجمة أجزاء من القداس إلى العربية، وما إن حل القرن العشرين حتى صارت معظم صلوات القداس تتلى باللغة العربية.. وللحديث صلة.

a_algammal@yahoo.co.uk
نقلا عن المصرى اليوم