فاروق عطية
 في الثامن من مارس 1919م عندما ألقِي القبض على سعد زغلول ورفاقه وهم حمد الباسل ومحمد محمود وإسماعيل صدقي وسينوت حنا ومكرم عبيد وفتح الله بركات وعاطف بركات وتم نفيهم إلى جزيرة سيشل، إندلعت الاحتجاجات في مختلف أنحاء المدن المصرية، وخرج المصريون مسيحيون ومسلمون في مظاهرات صاخبة لتسجيل غضبهم ضد هذا الأجراء التعسفى ولأول مرة في تاريخ مصر خرجت سيدات مصر في مظاهرات وكان ذلك في 16 مارس 1919م. ولأن خروج سيدات مصر في مظاهرات كانت مفاجئة مدوية في هذا الزمان لهذا كان لها أثر بالغ الأهمية عند جموع المصريين في جميع ربوع مصر.
 
 ولكن كان هناك بمدينة صغيرة على ضفاف النيل تدعى زفتى مجموعه من الشباب الجامعى والفلاحين والتجار والعُمال تفكر في عمل شئ يساعد في الإفراج عن سعد زغلول ورفاقه، وكان يتزعّم  أفراد تلك المجموعة يوسف الجندي الطالب بمدرسة الحقوق "وهو مِن الذين ساندوا سعد زغلول قبيل ثورة 1919م، اشتهر وهو طالب في كلية الحقوق بمناقشاته الثورية، وتم فصله من الكلية بسبب مواقفه ضد الإنجليز"، وأخوه الأكبرعوض الجندي المحامي، وكان معهم الشيخ عمايم والكفراوي والفخراني ومحمد أفندي عجينة صاحب إحدى المكتبات ومطبعة عجينة، وكانت تلك المجموعة تلتقى في مقهى مواطن يوناني يدعي مستوكولى بميدان بورصه القطن. واتفقوا على ضرورة دعم الحراك الثوري في القاهرة، وبعد تفكير دام طويلاً ومفاوضات عدة استقر الرأي على واحدة من أكبر مفاجآت الثورة المصرية على مر العصور. المفاجأة كانت إعلان استقلال المدينة عن الدولة المصرية تحت مسمى "جمهورية زفتى" وتشكيل مجلس رئاسي مؤقت لإدارة شؤونها ترأسه يوسف الجندي، ليصبح أول رئيس جمهورية لأول المدن المستقلة عن الاحتلال الإنجليزي لمصر، تلك الخطوة التي لاقت صدى واسع النطاق داخل القطر المصري وخارجه، وأُعلِن الاستقلال وانشاء جمهورية زفتى في 18 مارس 1919م من مقهي مستوكولي. صار ذلك المقهى مقر قيادة الجمهورية الوليدة. لم يكن استقلال المدينة ماديا بل كان استقلالا معنويا كان الهدف منه تقديم رسالة تهدف إلى لفت أنظار العالم بشأن التأييد الشعبي القوي لسعد زغلول ورفاقه في محاولة للضغط على سلطات الاحتلال للعفو عنه وإعادته إلى بلاده مرة أخرى، وقد ساهم هذا الإعلان في تحفيز جميع ربوع مصر بأهميّة مقاومة الاحتلال الإنجليزي، حيث أعلنت أيضاً بعض المناطق الأخرى استقلالها مثل فارسكور والمنيا وغيرها.
 
انتخب يوسف الجندي رئيسا للجمهورية، وقام رفاقه بتشكيل لجنة ثورية (المجلس البلدي الحاكم) والتي قررت الاستيلاء على مركز الشرطة في المدينة فزحفت الجموع مسلحة بالبنادق القديمة والعصي والفؤوس، نحو المركز فقام مأمور المركز الضابط اسماعيل حمد، ولأنه رجل وطنى انضم لهم وسلّمهم المركز وفتح لهم السلاحليك (مخزن السلاح) وشارك معهم في التخطيط. 
 
   استولت جموع الثوار في المدينة على محطة السكك الحديدية، وعربات السكة الحديد التي كانت محمّلة بالقمح، ومبنى التلغراف. تجاوب معهم جميع أهالى البلدة من فلاحين وأعيان وشباب ووصل الامر لتوسل رجل من الخارجين عن القانون للانضمام لهم وكان يدعى سبع الليل الذي كان يقود عصابة تروع البلدة وأهلها والقرى المجاورة لها، توسل للانضمام لصفوف الثوار وبعد محاولات مضنية تم ضمه بعد تعهده بالتخلي عن إجرامه والتفرغ لصالح العمل الثوري ومحاربة الانجليز، وبالفعل بات المجرم السابق أحد أبرز الأذرع في الكيان الثوري الجديد. ومن الطريف أن سبع الليل قد أوصى منشد البلدة أن يتغنى ببطولاتة لو قتلة الإنجليز. ولأول مرة يجتمع رجل الشرطة وزعيم العصابة على هدف واحد وهو محاربة الإستعمار.
 
كون المجلس البلدى الحاكم عدة لجان منها لجنه التموين والإمداد وكانت مهمتها حصر المواد التموينية وحسن توزيعها على أهالى البلدة، ولجنة النظافة وكانت من أنشط اللجان حيث كانت تنظف كل شوارع البلدة وترشها بالماء وانارة الطرقات ليلا، ولجنه الاعلام وتولاها محمد أفندى عجينة وكانت تقوم بطبع المنشورات السريعة لتوضيح الوضع العام في البلدة كما قامت اللجنة باصدار صحيفة يومية وكان اسمها "صحيفة جمهورية زفتى". ولجنة الأمن والحماية وتولى الاشراف عليها الضابط الشاب إسماعيل حمد أفندى وبمعاونة سبع الليل فجمعوا الخفر ورجال سبع الليل والأهالى من القادرين على حمل السلاح وقسّموهم إلى مجموعات كل مجموعة تتولى حماية احدى مداخل البلدة.
 
 وعندما علم الإنجليز مساء 18 مارس بما حدث أرسلوا قوة للاستيلاء على البلدة عن طريق كوبرى ميت غمر، لكن تصدى لها الأهالي فارتدت القوة على أعقابها. وعندما علم أهالي زفتى بأن هناك قطارا قادما إلى البلدة محمل بمئات الجنود والعتاد العسكرى قام سبع الليل ورجاله بقطع قضبان السكة الحديد على مسافة من خارج البلدة أمام قرية (سعد باشا) فعجز الإنجليز عن دخول البلدة للمرة الثانية. وصلت أنباء ما حدث في زفتى للقاهرة بل وعبرت البحار إلى لندن لدرجة تحدثت الصحف البريطانية عن استقلال زفتى التي رفعت علما جديدا. الأمر الذي استفز السلطات الإنجليزية في لندن بصورة دفعتهم إلى خلع السير ونجت في 21 مارس وتعيين اللنبي معتمدًا لبريطانيا في مصر لتهدئة حالة الهيجان والثورة في مصر، وظلت حالة عدم الأستقرار سارية. لجأ المصريون  في مختلف محافظات مصر إلى تخريب الطرق وقطع خطوط الأتصالات وأسلاك التلغراف وأعمدتها اقتداءا بما فعل أهالى جمهوريه زفتى، فتريث الإنجليز حتى تهدأ الأمور في أنحاء مصر. 
 
 وفي هذه الأثناء كان النظام الملكي وكبار الملاك وسلطات الاحتلال يعيشون رعباً حقيقياً ليس من انتفاضة زفتى وحدها، بل من الانتفاضات الأخرى أيضاً. وللتخلص من هذا المأزق أعلن في القاهرة عن تسيير فرقة أسترالية لإخضاع البلدة المتمردة فسارع أهلها إلى حفر خندق حولها. في فجر يوم 29 مارس 1919م فوجئ أهالى زفتى بعشرات المراكب التي تحمل جنود الارسالية الأسترالية تقوم بعمليه انزال الجنود على شاطئ النيل بالبلده وقيامهم باطلاق النار في الهواء أو على كل من يحاول عرقلة استلائهم على البلدة، فما كان من «لجنة الثورة» إلا أن طبعت منشوراً بالإنجليزية ووزعته على الجنود. ومما جاء فيه: «أيها الجنود، أنتم مثلنا، وإننا نثور على الإنجليز لا عليكم أنتم. إننا نثور من أجل الخبز والحرية والاستقلال. والإنجليز الذين يستخدمونكم في استعبادنا يجب أن يكونوا خصومكم أيضاً». وفي الأثر أحجم الجنود عن اقتحام الجمهورية واكتفوا بالانتشار في محيطها، وعند ذلك الحد أرسلت السلطات المحتلة تعليمات لتسوية الأمور بشروط منها أن يسلم أهالي زفتى 20 رجلاً منهم كي يتم جلدهم، حفاظاً على هيبة الدولة. وبعد نقاش طويل قررت «لجنة الثورة» تسليم 20 رجلاً، واختارتهم من الوشاة وعملاء الإنجليز، فجلد الإنجليز عملاءهم. لم يدم استقلال جمهورية زفتى طويلا فقد استسلمت بعد حصارها لعشرة أيام.
 
عندما تأكد للجميع أن الأمر أنتهى قاموا بتهريب يوسف الجندى ورفاقه إلى عزبة سعد باشا والواقعة في قرية مسجد وصيف واستقبلتهم أم المصريين السيدة صفية زغلول وقامت باخفاءهم في أماكن مختلفه، وظل يزسغ الجكدي هناك حتى أُفرِج عن سعد زغلول ورفاقه يوم 17 ابريل من عام 1919م، وحينها خرج يوسف الجندي للعلن مرة أخرى ليتسعيد بريقه السياسي بعدما بات حديث الشارع المصري.
 
عقب ثورة 1919م وبعد عودة سعد زغلول من المنفى قام باختيار يوسف الجندي ضمن حقائبه الوزارية لكن الملك فؤاد رفض بسبب ما سببه من مشاكل، وانتُخب يوسف الجندي عضوا في مجلس الأمة وتولى منصب نائب زعيم المعارضة. فارق يوسف الجندي الحياة عام 1941م عن عمر لا يتجاوز 48 عاما بعدما بات أيقونة للثورة المصرية ورمزًا للنضال، مسطرًا بتاريخه صفحات من نور تتوارثها الأجيال، جيلاً بعد جيلِ، وتخليدًا لذكراه العطرة اُطلق اسمه على العديد من الشوارع في القاهرة وزفتى، بجانب العديد من الأعمال الفنية التي تناولت سيرته الوطنية ونضاله الثوري.