مفيد فوزي
آسف!

أعتذر عن بعض ظنونى!

تزاملت الباخرة البنمية «إيفرجرين» الجانحة فى قناة السويس مع تصادم قطارى سوهاج، كان الحزن كبيرًا ولكنى تذرعت كمصرى قبطى بإيمانى، وأن الله - ضابط الكل - سينصر البلد بعد أزمتين، واحدة فقدنا فيها «أرواح» والثانية تهدد سمعة مصر الدولية والشريان الملاحى قناة السويس.

أكتب هذه السطور من منصة مصرية وطنية منتمية لتراب مصر، لم أكن شامتًا ولا متربصًا ولا متنمرًا مثل الشاشات المعادية أو الميليشيات الإلكترونية. كنت غاضبًا غضب الوطنى إذا طال وطنه بعض السوء. كان الغضب ممزوجًا بحزن «واعر»- كما يقول أهل الصعيد- صنع الحزن المختلط بالغضب حالة حيرة ذهنية، وجاء حادث انهيار عمارة فى جسر السويس يؤكد «ثلاثية» الحزن، وطاردنى الأرق فى نومى ونوم المصريين. كنت أفكر فى القيادة السياسية ومدى الثبات الانفعالى الرهيب الذى واجهت به هذه الكوارث، وأدرك بالطبع أن «الأزمات» قدر أى شعب، والمهم ألا يقف متفرجًا. ولكن المصريين عبر عِشرة السنين الطويلة ليس لهم «كتالوج» ويفاجئونك بما لا تتوقعه.

وأدرك أن أى حادث فى البلد له جانب سياسى وجانب جنائى. ويوم كانت المساءلة عن الحادث السوهاجى فى طهطا، وأقصد به تصادم القطارين وذلك أمام مجلس النواب، لم يصادف القبول منى مناقشة قضية الختان بحماس أنثوى من النائبات المحترمات. كان اهتمامى بالغًا بحادث القطارين، وهو الحادث الذى هز مصر. وكان طبيعيًا أن أسمع ماذا جرى للقطارين لولا أنى لمحت عبارة تقول إن النائب العام أصدر تعليمات بعدم الإدلاء بأى تصاريح قبل انتهاء النيابة من فحص القضية وإصدار بيان رسمى بذلك. وأعطيت أذنى لمناقشات الختان على مضض!.
■ ■ ■

بدأت أتابع سيناريو جنوح «إيفرجرين» فى القناة.. والبواخر الراسية منتظرة الفرج، والفرج معناه «تعويم» الجانحة، فتمر المراكب المعطلة. كثرت التكهنات والاجتهادات وتكاد تقول إن مصر عجزت عن تعويم الجانحة، وكبر الغضب فى قلبى ثم فجأة وجدتنى أكتب: «لا مانع من الاستفادة من خبرات الدول فى تعويم الجانحة، وأنه من التحضر ألا ننغلق». وأدركت فيما بعد أنى أخطأت التقدير، ولهذا أكتب عنوانًا للمقال «آسف». نعم كان ظنى قاصرًا وقصيرًا، لم أدرك عمق خبراتنا المصرية البحرية. لم أدرك أن المصريين يفاجئون العالم بغير المتوقع وهو القدرة على تعويم الجانحة. وربما كان الحادث نادرًا، فالمرشد المصرى اعترف به العالم ويشهد بكفاءته. وهذا المرفق - قناة السويس - له سمعة دولية فى السماء، ومعنى ذلك أن الممر الملاحى المحورى تديره عقول تربت فى البحرية المصرية ذات الرصيد الناصع فى السمعة والمكانة. ولا أملك ذرة من المعرفة فى دنيا البواخر العملاقة مثل إيفرجرين عندما تكون جانحة فى القناة.

بات هَمى كمصرى - بالتاريخ والجغرافيا - محصورًا فى حل المشكلة التى باتت «حديث العالم» أجمع، صحفه وإذاعاته وشاشاته ومساحات الاجتهادات فوق الموبايلات. ولما كثرت الاجتهادات، ركزت فى واحد منها يقول إن الحل يكمن فى عملية تفريغ بعض من حمولة هذه الجانحة. ولأنى أجهل عالم البحار فقد قلقت من عملية تفريغ بعض من الحمولة، وأخذت أردد: كيف ومتى وأين؟ لم تكن المسألة سهلة وأيضًا كانت الأبواق المعادية بدأت تنال من سمعة قناة السويس التى «رأسها» خبرات بحرية تختزن معرفة ومعارف بدنيا البحار والممرات البحرية، آخرهم فى ترتيب رئاسة هذا المرفق الهام هو الفريق أسامة ربيع، الذى كان يبذل جهودًا جبارة مبنية على خبرات مصرية، وكان صامتًا، كان يسمع أصوات الأعداء لمصر «والأداء العاجز» من تعويم الجانحة فيزداد إصرارًا على الحل بعقل مصرى بحرى تمرس على الصعاب. شعرنا نحن المصريين بأن فى الأفق من يشكك فى قدرتنا، وهناك بعض الدول التى عرضت خدماتها، وأصبح إنقاص وزن إيفرجرين هو الحل!.
■ ■ ■

صحيح أنها تجربة تمر بها القناة، ولكن العقل المصرى الذى أقول له بتحضر «آسف وأعتذر عن بعض ظنونى» أكبر. نعم، لم أكن أعلم أن جهدًا خرافيًا علميًا وبحريًا يجرى فى بطن الممر الملاحى لقناة السويس. مناقشات ومعادلات ومعارف عن هذا الشريان المحورى. والمفاجأة أن اقتراح أو اجتهاد إنقاص الحمولة لم يعد واردًا. والمصريون على قدر المسؤولية.. نعم، كان تفريغ بعض من حمولة الجانحة هو أسوأ سيناريو أمام العقول البحرية المتمكنة. نعم، هناك ٧٠٠ ربان من شركات شتى تدير المرفق ويثقون تمامًا فى الخبرة المصرية. ومرشدو القناة لهم تاريخ مشرف يوم عادت القناة لمصر عبدالناصر. هؤلاء المرشدون تدربوا دوليًا وخبراتهم ترصع المنظومة البحرية المصرية والعالمية. وكان رئيس مصر على علم بجميع تفاصيل الجهد المصرى من أجل تعويم الجانحة.
■ ■ ■

صباح الاثنين الماضى، أبلغ الفريق أسامة ربيع، رئيس هيئة قناة السويس، أن السفينة الجانحة فى وضع معتدل ٨٠٪ وسوف تكمل رحلتها إلى ١١ دولة، إنه حدث عالمى أن تنجح مصر فى سحب الجانحة إلى مياه القناة الجارية وهناك علاقة بين الرياح والمد البحرى فى صالح مصر.

وما كاد رئيس مصر يعلم بالخير حتى أعلنه على صفحته مغردًا، وهو يقول إن المصريين بنوا قناة السويس وحموها بأجسادهم، ويقول إن الحل فى تعويم الجانحة كان مصريًا «رغم التعقيد الفنى الذى أحاط بها» وقال «ليطمئن العالم على بضائعه» وأنه يشكر كل مصرى ساهم فى الحل.

ورأى الناس - ومن بينهم أنا - عملية سحب الجانحة من الجنوح لتنطلق فى رحلتها بعد جهد على مرأى من العالم. كانت القاطرات التى تتبادل الورديات وتعمل بنظام «Teem». حسابات دقيقة وتجنب أى آثار سلبية كانت فى صمت حتى تحركت الجانحة إلى ١٥٠ مترًا بعيدًا عن الشاطئ والعالم يتابع بإعجاز ما يجرى أمامه.

إن كل قاطرة اشتركت فى المشهد الملحمى تحمل اسمًا. هناك قاطرة بركة، وقاطرة عبدالحميد يوسف، وقاطرة مصطفى محمود. كانت هناك خطة زمنية، لكن الجانحة تحركت قبل الموعد المقرر، مما أذهل المتخصصين فى المنظمات البحرية، وأثبتت أن المرشد المصرى هو أيقونة قناة السويس. وأن المايسترو أسامة ربيع لم يتصل بالرئيس السيسى إلا بعد أن تحركت «إيفرجرين» ودارت محركاتها وتم سحبها بالقاطرات.
■ ■ ■

آسف... وأعتذر عن بعض ظنونى، وعذرى أنى لم أفطن إلى الخبرة المصرية البحرية التى كانت فى صمت تدير الأزمة بثقة وثبات.

آسف.. وأعتذر عن بعض ظنونى أن إنقاص حمولة الجانحة هو الحل، ثم ثبت أنه أسوأ سيناريو للحل.

آسف.. وأعتذر وأردد مع رئيس مصر عبدالفتاح السيسى: وسلامًا يا بلادى.
نقلا عن المصرى اليوم