ربما تكون نوال السعداوى أشهر شخصية نسائية مصرية وعربية فى العالم. فقد كانت كتاباتها- كطبيبة، وروائية، وناقدة تختلف عن كل منَ سبقوها من قيادات نسوية خلال المائة سنة السابقة لأول كُتبها الخمسين، والذى حمل عنوان «المرأة والجنس»، وهاجمت فيه عادة الختان، بوصفها عملية وحشية ضد الطبيعة البشرية، وتُحرم الأنثى، خصوصاً من المُتعة والاستمتاع بالجنس، وهى المُتعة التى اعتبرتها حقاً إنسانياً أساسياً، مثل حق الحياة، والحقوق الأخرى، التى نص عليها الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، الصادر فى العاشر من ديسمبر عام 1948.

 
وحين نُشر الكتاب فى بداية الستينيات هاجمه الأزهر، وسارعت الحكومة بمُصادرته ومنع توزيعه. ففى ذلك الكتاب وغيره من مؤلفات نوال السعداوى، لم تتردد عن تفجير القضايا المسكوت عنها فى حياة المصريين. وربطت بين قمع المرأة والقمع السياسى والاقتصادى لبقية المصريين. وبينما لاقت مؤلفاتها ترحيباً ورواجاً بين الشباب من النوعين، هاجمها رجال الدين وصادرتها السُلطات الحكومية.
 
ولكنها كانت تجد من يُعيد نشرها فى العاصمة اللبنانية بيروت، لتعود مُهرّبة إلى وطنها مصر. كما قامت عديد من دور النشر العالمية بترجمة الكُتب بلُغات مُختلفة. وبينما فُصلت نوال السعداوى من كل وظيفة حكومية شغلتها فى مصر، انهالت عليها الدعوات من جامعات خارج مصر للتدريس أو إلقاء المُحاضرات العامة بها. كما منحتها بعض تِلك الجامعات دكتوراهات فخرية.
 
ولم تتوقف المُفارقات لا فى حياة نوال السعداوى، أو بعد رحيلها. فبقدر ما ملأت الدُنيا صياحاً حول ما تتعرض له الإناث فى مصر والمجتمعات العربية والإسلامية من ظُلم وامتهان، بقدر ما امتلأ الإعلام العربى الورقى والسيبرانى بالحديث عنها، وكان معظمه فى هذه المرة إشادة بالدور التنويرى السابق لزمانها والذى ستقوم البُلدان العربية، من تونس إلى العِراق بإصدار التشريعات التى تُنصف النساء، وتقترب بهن إلى حافة المساواة الكاملة مع الرجال.
 
فى السنوات العشر الأخيرة من حياتها المديدة، مرت بتجارب شخصية أليمة، حيث تدهورت صِحتها، وتضاعفت نفقات الحياة والرعاية المنزلية، مع دخلها المحدود، من المعاش أو من حقوق تأليف ونشر كُبتها. وتطوعت إحدى مُعجباتها، الرائعة، هند لزيارتها يومياً لِعدة ساعات، ورعايتها نفسياً وصحياً، واجتماعياً. وكثيراً ما كُنت أتردد عليها لزيارتها. وكانت تشعر بجحود العديد ممنَ كانت تعتبرهن رفيقات أو صديقات مسيرتها. وكُنت أحاول التخفيف من ألمها، وخاصة بعد أن أقعدها وهَن الشيخوخة، بأن بعض منَ تُعاتبهن، قد رحلن عن الحياة، ولم تكن قد علمت، فترقرق الدموع فى عينيها اللتين لم تفقدا معظم لمعانهما.
 
كانت عاتبة على وزارة الثقافة بكل أجهزتها أنها لم تسأل عنها، ولو مرة واحدة، فضلاً عن أنها لم تعرض أن تقدم لها أى دعم مادى أو معنوى، وهى تسمع بين الحين والآخر عن قرارات رئاسية أو وزارية بمساعدة هذا الفنان أو تِلك الفنانة، أو إرسالهم إلى الخارج لتلقى العلاج.
 
وكانت نوال السعداوى تتعجب بصوت موجوع ما إذا كانت أجهزة الدولة الرسمية مازالت غاضبة منها وحانقة عليها بسبب كتاباتها الجريئة؟! وكُنت أواسيها بأن أجهزة الدولة البيروقراطية لا مشاعر لها، ولا أحاسيس لديها، وأن المسؤولين فيها من الوزير إلى المدير هم فى المتوسط أصغر منها بثلاثين سنة، وربما توقفوا عن قراءة رواياتها وكُتبها النقدية منذ مدة طويلة، وأن مُعجبيها من الشباب، لا يملكون سُلطة أو ثروة لكى يُسارعوا بمساعدتها.
 
ونادراً ما سمعت خلال السبعين عاماً التى عرفت فيها نوال السعداوى أنها شاكية أو نادمة على شىء، ولكن فى السنوات العشر الأخيرة من حياتها كانت تُعبر عن مشاعر الأسى والأسف أن تكون قد أساءت مواقفها وكتاباتها إلى مواقف الدولة أو القطاع الخاص من فلذة كبديها الكاتبة مُنى حلمى، والمخرج السينمائى عاطف حتاتة. لقد كانت نوال تعتقد، وربما عن حق، أن مُنى وعاطف موهوبان مُبدعان، وأن أعمالهما الإبداعية المُبكرة قد حظيت بتنويه عديد من النُقاد. ومع ذلك تعرضا فى السنوات العشر الأخير للتجاهل. وكانت كبرياؤها تمنعها من الاتصال بأى مسؤول فى القطاع العام أو الخاص للشكوى من ذلك التجاهل.
 
ولأن عالم الإنتاج الفنى بعيد عن دائرة نشاطى ومعارفى، فقد كان صعباً على أن أتحقق من شكواها المُزمنة. ومع ذلك فها أنا أكتب عن تِلك المسألة، لعل وعسى أن يقرأها مسؤول فى عالم السينما والمسرح، لكى يتفضل بقراءة بعض ما كتبه عاطف حتاتة أو أخته مُنى حلمى، عله يصلح للإنتاج الفنى. ونكون بذلك قد لبّينا صيحة نوال السعداوى الأخيرة، لتعود إلى بارئها راضية مرضية. والله على ما أقول شهيد.
 
وعلى الله قصد السبيل
نقلا عن المصرى اليوم