محمود العلايلي
أثارت صورة نائب حزب النور السلفى فى البرلمان كثيرًا من التداعيات التى نسيها المواطنون منذ برلمان 2012، خاصة أنه غاب عن مناقشات قانون الشهر العقارى ومشكلات الرى والبناء، بينما ظهر خلال إدلائه برأيه فى موضوع ختان البنات، وكان من الطبيعى أن يتخطى ذلك إلى تعليقات عن الأصولية الدينية بشكل خاص والأصولية الفكرية بشكل عام، ولكننا إذا أردنا توخى الدقة فى مثل هذا الملف وجب علينا أولًا توصيف الأصولية، بكونها نظرة إلى مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية نابعة من إيمان بفكرة أو عقيدة، ويتم تطويع كل ما سبق لأفكار تلك العقيدة، كما يتم إسباغ كل التوجهات العقائدية على كل النواحى الحياتية سواء فى التعامل اليومى أو التخطيط المستقبلى، وهى طريقة تفكير تعتمد فى غالبها على المرجعية الماضوية من أقوال وكتابات وأعمال السلف، ولذا يقل التصرف ويغلب النقل، ويعتبر أغلب الأصوليين أن الاجتهاد، أى محاولة تطبيق حالة من الحاضر على مثيلتها فى الماضى، باب من أبواب التجديد من ناحية، ومحافظة على صلابة الفكرة الأصولية من ناحية عدم التبدُّل أو التغيُّر على الرغم من مرور الزمن.

والمهم فى ذلك أن النقاش الأصولى لا يعتمد أبدًا على الجدل المنطقى بقدر ما يعتمد على ذاكرة الحفظ والنقل والقدرة على الإسقاط، والمهم أيضًا أن الأسلوب الأصولى يتميز بالتوجس الشديد من المختلفين لأن المسألة يقينية لا تحتمل حتى التسامح بين الفرق الأصولية وبعضها، ويتصف الأصوليون باستخدام كل منجزات العصور الحديثة من أدوية ومنتجات تكنولوجية وأسلحة ووسائل تتبُّع وأجهزة اتصال، بينما يلعنون صانعيها وينتقدون أغلب أساليب حياتهم السياسية والاجتماعية والأخلاقية، معتبرين أنفسهم من طينة مميزة، إلا أنهم لم يقدموا تفسيرًا مقنعًا أبدًا لتأخرهم وتقدم الآخرين إلا التشدق بالأخلاق وإظهار التمسك بالقيم النبيلة.

إن أهم ما يتميز به الأصوليون أنهم يعتبرون أن ما يؤمنون به هو الحق المطلق الذى لا لبس فيه ولا خطأ، وهو ما لا يتماشى مع مبدأ التجربة فى العلم، ولا مع مبادئ الصواب والخطأ فى الحياة الاجتماعية، وطبعًا يتنافى مع الفكر الديمقراطى فى الحياة السياسية، التى تعتمد على احتماليات التغيير أكثر من احتماليات الجمود والثبات، والأهم أن الأصولية تتنافى مع مبادئ الشك فى التفكير، مما يقلص من فرص التقدم أو التغير أو الخروج عن المألوف والمعروف والمأثور.

وقد جرى العرف عند الحديث عن الأصولية أن تتبادر إلى التفكير الأصولية الدينية، وهو ما لم أذكره من الأساس، وإنما قصدت أصولية الفكر السائدة، حيث الرجوع أو الاستناد على أقوال وأفعال السابقين باعتبارها مرجعيات لا تُرد ومسلمات محفوظة اعتمادًا على أسلوب الحفظ والتلقين ووسائل التسليم من جيل إلى جيل ومن حلقة نقاشية إلى أخرى، مما يقودنا حتمًا إلى منظومة الأصولية الفكرية المعتمدة على النقل والحفظ، المؤدية إلى الانزواء الفكرى وإقصاء الآخرين والتوجس من المختلفين، لنكتشف دون تردد أننا نعتقد الأصولية فى الآخرين، بينما إذا رجعنا إلى أنفسنا لوجدنا أننا أصوليون فى تناولنا الإعلامى، وأصوليون فى ممارساتنا السياسية، وأصوليون فى تفاعلاتنا الاجتماعية.

بل أصوليون فى قراراتنا المستقبلية لأن المشكلة الحقيقية أنه بداخل كل منا أصولى متجذر يعطى لنفسه الأعذار، بينما يتهم الآخرين بالثبات والتحجُّر، بينما لن يمكننا التحرك إلا إذا اكتشف كل منا الأصولى القابع داخله قبل أن يبحث عنه فى عقول الآخرين، والخطوة التالية أن يبدأ فى تحديثه قبل أن يفكر فى تحديث غيره، ويعطى كل منا لمَن حوله من الأبناء والتلاميذ والمرؤوسين المجال والفرصة للنقاش والتجربة والشك بدلًا من التلقين والجمود والخضوع حتى تنكسر حلقة الأصولية المفرغة لصالح التغير والتحرك للمستقبل.
نقلا عن المصرى اليوم