منى أبوسنة
روى لى أحد الشباب من «رواد منتدى ابن رشد»، الذى شرفت بتأسيسه وإدارته مع أستاذى الفيلسوف مراد وهبة، فى عام 2001، القصة الآتية:

فى اليوم الذى يعقد فيه اللقاء الشهرى لمنتدى ابن رشد وهو السبت الأول من الشهر، كنت أتأهب للذهاب لحضور اللقاء وكان فى صحبتى صديق شاب عرضت عليه أن يذهب معى لحضور اللقاء. فإذا به يعترض بشدة وبعصبية قائلا: «انت عايزنى أروح معاك عشان ارجع بدماغ تانيه.. لأ يا عم».

هذا الموقف يكشف عن مسألتين هما التفكير الفلسفى وتغيير الذهنية من جهة، والخوف منهما من جهة أخرى. ولا يعبر هذا الموقف عن حاله فردية وإنما هو يمثل حالة مجتمعية من الخوف من مجرد التفكير الناقد، الذى يشكل جوهر التفلسف، إلى الحد الذى فيه يصل إلى درجة الازدراء. بل والتكفير على حد الحكمة الشعبية، مثل مقولة: «فلان وجهه مخطوف، أصل عنده فكر» و«هو انت هتتفلسف فاكر نفسك مين» و«بلاش فلسفه ووجع دماغ».

والسؤال الآن: لماذا يكره الشعب المصرى الفلسفة؟ بل لماذا نخاف من التغيير الناتج عن إعمال العقل الناقد؟

ما يعنينا فى هذا المقال هو موقف شباب اليوم، أى شباب الإنترنت، من التفكير الناقد، أى التفلسف، الذى يؤدى إلى التغيير العقلى والاجتماعى والثقافى. إن المتابع لمواقع التواصل الاجتماعى بالأخص الفيس بوك، وكذلك محركات البحث مثل جوجل، سوف يدرك تناقضا حادا يمثل إشكالية تدور حول علاقة الشباب بالفكر من جهة والتغيير من جهة.

يكمن التناقض فى الموقف الذى كشف عنه الشاب فى المثال سالف الذكر والذى يمكن تعميمه على نسبة كبيرة من الشباب. فهم من مدمنى الإنترنت يتعاطون ليل نهار معلومات لا نهائية من مصادر معلومة وخفية، دون إعمال العقل الفاحص لتلك المعلومات. بل والعمل على مشاركتها مع الآخرين هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فإنك تفاجأ بأن هذا النوع من الشباب يقبل إقبالا شديدا على فكر الفيلسوف الألمانى نيتشه ويعتبره الفيلسوف المعبر عن فكر الشباب وطموحاته، ذلك مع علم هؤلاء الشباب أو عدم علمهم، بأن نيتشه كان يحذر من اتباع القطيع كما يتمثل فى التراث الفكرى والعادات الموروثة والتقاليد المقيدة للتفكير الحر والمانعة من التغيير. كما عبر نيتشه عن دعوته للبحث بداخل الفرد عما أطلق عليه السوبر مان أو الإنسان المجاوز لكل ما يكبل حريته العقلية، وأن يسعى دائما إلى تحقيق ذاته فى العالم من خلال الخبرات والمعرفة التى تمنحه القوة لتغيير ذاته وتغيير العالم من حوله.

السؤال: كيف يمكن رفع هذا التناقض بين فلسفة نيتشه التى تدعو إلى الجرأة فى إعمال العقل من أجل نقد الفكر الموروث، واكتشاف الطاقات الكامنة فى عقل الإنسان من جهة، وعقلية القطيع التى حذر منها نيتشه، والتى تهيمن على شباب الإنترنت؟

إن رفع هذا التناقض، فى تقديرى، لن يتم إلا من خلال الوسائط التى يستخدمها الشباب، وبالأخص تطبيق اليوتيوب. هذا عن الوسيلة. أما عن الهدف فهو يتمثل فى نشر تاريخ الفكر الفلسفى مع التركيز على بعض الفلاسفة الذين انشغلوا بالكشف عن طاقات الإنسان المبدعة العقلية والنفسية الكامنة، أى اكتشاف الذات من جهة، وكما تمارس فى الحياة العملية من خلال وجوده فى المجتمع من جهة أخرى. واقترح تأسيس مشروع شباب تحت اسم «كيف تعثر على ذاتك» بالتركيز على خمسة فلاسفة هم: سقراط وبريجسون ونيتشه وهايدجر وسارتر.

كما اقترح تكوين مجموعة من الشباب تقوم بترجمة الفيديوهات التى يبثها اليوتيوب باللغة الإنجليزية يقدمها نخبة من أساتذة الفلسفة المتخصصين العالميين، ثم متابعة مدى إقبال الشباب على تلك الفيديوهات. ثم تأسيس موقع أو مجموعة للتحاور حول مضمون الأفكار التى سوف تطرح. ثم استخلاص فلسفة عملية تعين الشباب على ممارسة الفكر الفلسفى النظرى لإيجاد حلول مبدعة وغير تقليدية لمشكلات المجتمع مثل التفكير الخرافى، الفقر، الجهل، النمو السكانى، البطالة... إلخ. وذلك بهدف تكوين تيار من الشباب المتفلسف والواعى بذاته المبدعة ولديه الجرأة فى تحقيق تلك الذات فى العالم، أى فى المجتمع، مما يؤدى إلى التغيير من حالة الخوف من الفلسفة وكراهيتها مما يؤدى إلى الوقوع فى براثن الجهل والتخلف، إلى حالة المجتمع المتنور التى كان يدعو لها فيلسوف التنوير «كانت».

أما الهدف البعيد لهذا المشروع فهو تكوين نخبة جديدة قادرة على إعادة بناء العقل الجمعى فى المجتمع، وذلك بإيقاظ الجماهير من سباتها المتمثل فى الفكر الأسطورى اللاعقلانى، وتوعية تلك الجماهير بمبادئ وقواعد التفكير العلمى العقلانى المنهجى. وبدون حدوث تلك النقلة فى عقل الجماهير لن تجدى أية مشروعات لتشييد مدن جديدة مبدعة أو بنية تحتية متمثلة فى الطرق والكبارى وإسكان اجتماعى ورعاية صحية وتعليم، مع أن ذلك لازم وضرورى، حيث إن المجتمعات لا تتطور تطورا حقيقيا، أى تطور حضارى، إلا من خلال الجماهير التى تشكل جوهر تلك المجتمعات.
نقلا عن المصرى اليوم