خالد منتصر
التطور يحتاج إلى تراكم، والمنهج العلمى بناء رأسى تتراكم فيه طبقة فوق طبقة، تضيف وتجود وتحسن تحقيقاً للأفضل، وعدم تطورنا الفكرى والعقلى وعودتنا لمناقشة أشياء قد حسمت منذ ألف سنة وتجاوزتها الأحداث وصارت فى متحف التاريخ، دليل على أن ثقافتنا ينقصها هذا التراكم الشبيه بالطبقات الجيولوجية، التى حفرياتها الأقدم قابعة فى الأسفل، وحفرياتها الأحدث أكثر تطوراً موجودة قرب السطح، مصر هى البلد الوحيد الذى بعد كل تلك السنوات تسود فيه رؤية دعاة سلفيين على المزاج المصرى ويصبح أتباعهم بالملايين

وتجد فيها حفرية الديناصور ترقد فوق جثة الإنسان! وهى البلد الذى أنجب الشيخ محمد عبده وعبدالمتعال الصعيدى وشلتوت، لم تتراكم آراء هؤلاء المجددين، بل عدنا إلى نقطة الصفر، كنت أتخيل أننا سنبنى على آرائهم، ونسد الثغرات التى لم يملأوها، فحتى هؤلاء المجددين كانت لهم آراء تحتاج إلى دفعة وتحديث يتناسب مع الزمن، لكن ما حدث أن القدماء فى المؤسسة الدينية انتقدوا تعدد الزوجات وعدنا الآن بعد قرنين نمجد ونمدح بل ويتكون عندنا جمعيات نسائية تدعو لتعدد الزوجات!!

وكانوا قد قاربوا بين السنة والشيعة ودعوا للاستفادة من فقههم والتلاقح ما بين اجتهاداتهم واجتهاداتنا، فعدنا فى ذلك العصر إلى التصريحات النارية العدائية وأخفها وطأة أن الشيعة أخطر من إسرائيل، ويقتل فى زماننا ومنذ سنوات قليلة ويسحل شيخ بأبشع طريقة لمجرد أنه شيعى يحتفل فى بيت مغلق مع أصدقائه!!

لم نستفد ولم نراكم خبرة أن ينقذ رجل عدالة ووكيل نيابة شاب مفكراً من اتهام التكفير بل ويكتب أن ما كتبه طه حسين يقع فى دائرة البحث العلمى، ونأتى نحن بعد سنوات لنحكم على الباحث نصر أبوزيد بالتفرقة بينه وبين زوجته لأنه مارس جريمة البحث العلمى!! دائماً نعود إلى المربع رقم واحد، فى زمن الطرابيش عندما أنشئت جامعة القاهرة (فؤاد) كانت القاعدة أن دينها العلم والبحث والبعد عن الطائفية وتديين أنشطة الجامعة العلمية، أكد على ذلك أحمد لطفى السيد وسعد زغلول، وأعمدة الليبرالية المصرية، لكننا لم نستخدم فضيلة التراكم الثقافى

وتركنا الجامعة فترة طويلة ميداناً للتلاسن والتمييز الطائفى، كان سلامة موسى أول مفكر عربى يشرح لنا التطور بفهم وجرأة، محطماً تابوهات راسخة، أيضاً لم نستفد ولم نراكم وصارت مناهج مدارسنا بعد قرن كامل تخاصم تدريس نظرية التطور بعدما صارت عموداً من أعمدة بناء علم البيولوجى، انطلق إسماعيل أدهم منذ مائة سنة فى التحليق بحرية وأصدر كتابه «لماذا أنا ملحد»

وتم الرد عليه ولم يدخل السجن، بينما دخل السجن بعد صدور الكتاب بثمانين سنة المفكر الشاب إسلام بحيرى لأنه انتقد البخارى، وهو يعلن أن هدفه هو إنقاذ الإسلام، لم يعلن أنه ملحد أو متشكك أو لادينى.. إلخ، مجرد أنه انتقد التراث!! عشرات الأمثلة تؤكد على أن جوهر أزمتنا العقلية هو نقص أو انعدام التراكم، وأننا لا نحسم أى ملف فكرى جاهد فيه مفكرون قبلنا لنتجه إلى ملفات أخرى أهم وأخطر، ولكننا نظل نحكى فى المحكى ونكتب هوامش على الهوامش ونمارس رياضة الجرى فى المكان، أو بالأصح الهرولة إلى الخلف.
نقلا عن الوطن