قصة قصيرة بقلم : روماني صبري 
 
ليس أصعب من ظهور بركان يأخذ يقذف حممه البركانية فوق صدرك، وهذا والحمد لله لا يحدث إلا في الأحلام!، رباه لكم كان كابوسا فظا، كان له وقع سيء على روح وجسد الأستاذ منير سيدهم عبد المسيح – كبير موظفي الحي سابقا-، حتى انه أنهضه من فراشه فزعا، فراح يقول في نفسه ونبضات قلبه تتسارع  :" الحياة هنا لم تعد تطاق، متى أحببت الشمس حين تتأبط الشارع الذي أمر منه خلال ذهابي للعمل، آه ها قد أحالوني للمعاش منذ شهور وهذا يحبطني، جانب أن حفيدي "يوسف" المتقد ذكاء عبقري العائلة قتله سائق ميكروباص أهوج وهو في طريقه للمدرسة، حقا لكم كان يوم مولده مختلفا دونا عن سائر أشقائه، كانت الأجواء احتفالية للغاية تزخر بزغاريد النسوان، فالطفل الرضيع اعترت وجهه ابتسامة، التفت لها الجميع، لنقول كانت شبه ابتسامة، حسنا من يلتفت في مثل هذه الأوقات لما تكرسه القوانين أو ما يتماشى مع قيم المجتمع المتعصب الذي نعيش فيه.
 
"ربما السعادة في الآخرون"، رغم أن الاختلافات تزيد الشرخ بين البشر"، ولكم عانى الأستاذ منير جراء ذلك، وعلى أي حال الإنسان يميل لمن يشبه، وكان حفيده الذي لقي حتفه، يتشارك معه في حب الجماد والطبيعة وإصلاح الأشياء التي أصابها عطل، ذات يوما حين بلغ يوسف عامه السادس، تعطلت غسالة والدته، فإذا به يشرع يقصد المطبخ ويفتش في درج الأدوات عن "مفك"، ليفك الغسالة ويبحث عن العطل، لكن والدته منعته بقولها :" لا تزال صغيرا يابني، ليقوم بالعمل فني"، وكان ذلك في حضور الأستاذ منير، الذي لسرعان ما احتضن حفيده واختص ابنته بنبرة سعيدة :" تستطيعين تحديد ذكاءه، وليس عليك إخفاؤه، فلنفتخر به، ولتحافظين في الوقت نفسه على نفسية باقي أبناءك، وبالطبع سأعجز عن إمدادك بالنصيحة."
 
وتابع :" حسنا .. أتدرين كان عمك "الفونس" يكره نجاحي، أقول نجاحي وليس شخصي، وليعلم الله انه لم يتمنى لي شرا في أي يوم، كل ما كان يريده هو ان تعرف الحياة العدل، ولما لا أليس هو من لم يستكمل تعليمه بناء على رغبة والدنا، الذي قال له لتعمل حتى تساعدنا في نفقات المنزل، وتعليم أخوتك، كونك البكر، وبالحق فعل، حتى الأطفال يولدون بحب التضحية، ذات يوما نفذ زيارة لمنزلي، فتحت له والدتك رحمها الرب، كان باب غرفتي مواربا، فتحه وراح يقول بصوته الضعيف مبتسما وظهر مهزوما :" لكم افتقدتك يا شقيقي يا من تصغرني بسنوات، نعم لا تزال صغيرا في عيني، ولما لا الم انفق عليك في طفولتك حتى اعتبرتك ابني"، أتدرين حديثه لي جعلني أتجمد في مكاني، حتى وثبت من السرير، وأقبلت عليه مرحبا، وحين احتضنني أبصرت فيه حنان الوالد كما يحدث دائما، وبالحق شعرت بالحرج منه، قلت كان البابا الباب مواربا كنظرات شقيقي للحياة والتي عكست احتقاره لها، نعم لا شك في ذلك." 
 
عندما تأخرت إدارة مصنع الغزل والنسيج الصغير الذي كان يعمل به العم الفونس في دفع رواتب العمال، لأسباب لا يعلمها إلا الله، حتى تكشفت يوم الحادي عشر من الشهر الجديد، تأبط الرجل غضبا عظيما، حيث قد ضاق ذرعا، فزوجته كانت تعنفه كل يوم وتتهمه بالجبن، كونه يرفض اتخاذ موقف صارم تجاه صاحب المصنع حتى يحصل على راتبه، في هذا اليوم راح يصرخ على حين فجأة، ما افزع العمال، ومنهم من ظنه انه تعرض لذبحة صدرية، فإذا به يذرع صالة النسيج طولا وعرضا، قائلا :" تأخرتم في دفع رواتبنا يا جبناء، ها قد نجحت في كشف نيتكم، انتم تريدون سرقة العمال الغلابة، ليذهب أحدكم ليأتيني بصاحب المصنع حتى اقتله، وساجد في ذلك شيء جميل، ولن يعكس قتلي له إنني أريد التكيف مع قذارتي.
 
 وبعد دقائق تذكر، أبصرت العيون -المقدس عياد- صاحب المصنع، وهو يدخل الصالة وكان كأنه هائما على وجهه، اتجه صوب العم الفونس الذي طوقه شعور الندم فدفن رأسه في ماكينته واخذ يجهش بالبكاء، وكان التف حوله العمال حتى لا يشهد المصنع جريمة قتل، ابعد المقدس عياد، احمد العامل عنه والذي كان يخفف عنه قائلا :" متخافش المعلم هيسامحك ومش هيسرحك." 
 
اختص المعلم الفونس قائلا :" أنت تقتل يا الفونس !، يمكن، طب اسمعوني يا عمال مصنعي مراتي استولت على كل فلوسي في البنك بموجب توكيل عام وهربت برة مصر، لاني بصراحة خونتها، والستات بارعات في كشف الخيانة، ياما وقفت جنبي واهي عرفت تنتقم، ولو كان صبر القاتل على المقتول كان مات لوحده، عم عبد الفتاح المحاسب اديته أمبارح شوية دهب عشان يبيعهم وتاخدوا رواتبكم وعليها راتب شهرين مكافأة، كونكم استحملتوني، والمصنع مش هيقف وهبدا من جديد، وعم الفونس مش هيمشي وهيفضل شغال معانا، زي ما قاله احمد، قال ذلك الرجل فزخم المصنع بابتسامات العمال عدا الفونس، الذي اقبل عليه المقدس وراح يمسح دموعه بيده، واختصه :" يسوع هيسامحني يا الفونس .. أنت راجل قريب من الكنيسة؟!، فرد عليه :" هيسامحك يا معلم والرب قريب لمن يدعوه." 
 
عقد الأستاذ منير العزم على الذهاب إلى منزل شقيقه الفونس في الحي العشوائي فهو يفتقده كثيرا لاسيما بعد هذه التجارب الصعبة والتي رآها تشبه البركان في الكابوس، فالرجل يمتلك زوجة صافية النفس تسعد بزيارة الأقارب، وهي المرأة التي زهدت الحياة مبكرا لسبب لا يعلمه إلا الله، حيث لم يعرف الموت أحدا من أبنائها وزوجها حيا يرزق، ربما كما يقول زوجها كونها تعرضت لصفعة من سيدة في العلن حين كانت تبتاع بعض الخضروات بعد زواجهما بأسبوعين، على اثر اصطدامها بها غير عامدة جراء زحام السوق، ربما أحدثت الواقعة صدعا في رأسها، والإهانة بطبيعة الحال تجر في ذيلها الألم النفسي.
 
بالحق سيقصد الأستاذ منير منزل شقيقه، ها هو يرتدي ملابس متواضعة على غير عادته ويقود سيارته بنفسه، فمنذ دقائق منح سائقه الخاص 5 أيام إجازة مدفوعة الأجر وكأنه يعمل بالقطاع الحكومي، في الحقيقة ينتوي العجوز مفاتحة شقيقه في عدد من المواضيع الفلسفية ليستعيدان ذكرياتهما مع حب الكتب، وكان كتب منذ يومان ما خلص إليه وهو ما سيقرئه في حضور العم الفونس، وجاء نص ما كتبه ودونه بملاحظة على هاتفه المحمول :        
 
هل نتوهم حين نعتقد أن تدخين التبغ يحسن المزاج، لاسيما وأنت تعتصر ألما، والحقيقة انه يقتلك ببطء، كما تقع في قصة حب تنتهي بالفشل فتظل تتذكر ذكرياتك الجميلة وقتها، فتتدهور صحتك شيئا فشيئا، فينتهي بك الحال وأنت تقول في نفسك : اللعنة على كل شيء، وأليست الموسيقى جميلة وتشبه آيات الإنجيل التي تدعو لمحبة الآخرين، لطالما بعث صوت عبد الحليم الاكتئاب في نفسي وفي نفس يوسف حفيدي الذي افتقده كثيرا، وأتمنى أن أتلذذ بتعذيب قاتله، ولما لا، فالحب يقودك لحب الانتقام، فتقتل كثيرا في خيالك من كان سببا في غياب عزيزا لديك.
 
حين اعتقلني نظام جمال عبد الناصر، من الجامعة على اثر تظاهرة شاركت فيها احتجاجا على سياساته،  لم أرى في أي يوما بعدها إنني فقدت احترامي لنفسي، وهذا جميل لكنه لا يعكس إن الحياة تزخر بالعدل كما تقول يا أخي، حينذاك خرجت ألفاظ قبيحة من فمي بالمعتقل، قلت حتى تخفف من قتامة الأجواء، ويوم إطلاق سراحي وفيما أنا واقف بمحيط المعتقل أودع الحراس ذهبت ببصري نحو السماء ورحت أخاطب نفسي : أنا استحق الاحترام والتقدير كوني سجنت صغيرا مدة شهرين، كما قلت ان الحب يعذب البشر أكثر من الحقد والشعور بالظلم الذي يسكنهم، وأنا اعلم كل العلم انك بذلت جهودا جبارة حتى يتم إطلاق سراحي، أخي أنا مدين لك بالكثير ، وليس أجمل من أن يتبادل الأشقاء العجائز الحديث، فمن المستحيل أن يشفق عجوز على آخر .     
 
ماذا لو قال عجوز يلوك علكة انه سيبدأ من جديد، أليس هذا سيثير الألم والضحك بالآخرين، ولا أبالغ حين اطرح هذا التصور، حصلت على الابتدائية يا الفونس لكنك بعقل فيلسوف عظيم، وأبصرت ذلك منذ خروجك من المدرسة الإعدادية، لطالما ابتسمت لي الدنيا حين كنت تحنو علينا بعد وفاة والدنا، ولكم أراهن انك ستصيب نجاحا عظيما في حال خرجت مذكراتك للنور، وأنت أيها العجوز على علم بذلك، ها أنت تتفحص وجهي حين اختصك محدثا، كما في الماضي الجميل، لا أنكر أنك لغز يا صديقي، نعم إذ رفضت أن تعيش ذليلا، وكانت أمنا تشهد بذلك، أليس أنت أيها العنيد من رفضت وظيفة في الحكومة كونها كانت بواسطتي، لكنك رغم ذلك تقول أن التحدث عن المبادئ أمام الآخرين اشد رعبا من الجحيم، أتذكر انك قلت لي هذا الكلام وكنت تهز راسك.
 
 رباه لكم نحن مساكين، ومن حظ الحسن أن ابنك الأكبر يشبهك كثيرا، نعم فهو يرفض أيضا الإخلال بالنظام ويناهض التعصب، أتعلم إنني انظر إليه كابني، كما كنت انظر لزوجتي وحفيدي يوسف، حقا الرجل الحقيقي هو من يغدو أبا لكل أحبائه، انظر ها أنا اردد ما تعلمته منك يا شقيقي، قالت لي زوجتي ذات يوما : أرجو أن أكون عند حسن ظنك، لأنك لطالما احترمتني، فتأبطني غضب لا مثيل له، فقلت لها ضاحكا : هل حولني الرب لمديرك في العمل دون أن ادري ؟!، لنتشارك بعدها في الضحك، تزوجتها بعد قصة حب عنيفة، إذا رغم مرارة التجارب يمكنني أن أقول أن جيلنا كان سعيد الحظ، مقارنة بالأجيال التي قدمت بعده.
 
منذ أيام كتبت قصتي الأولى، ووضعت لها عنوانان " مصرع الأستاذ منير عبد المسيح .. السعادة في الآخرون "، وليشهد الله أنني لم اقصد الاستهزاء بسارتر، فانا في قصتي أتحدث عن نفسي، عمن أحبهم وافتقدهم، وعلى رأسهم أنت يا حبيبيي الفونس، وفي نهاية القصة اسمع صوت في حلم يختصني على حين فجأة بعد أجواء تضج بالصمت : انهض أيها العجوز  يمكنك إنقاذ حفيدك، فاليوم سيصدمه سائق متهور بحلول الساعة الثامنة صباحا بمحيط مدرسته، على اثر ذلك أثب من سريري فزعا، وعلى عجل اقصد مدرسته، وحين أصل، لسرعان ما أدركه قبل أن تدهسه السيارة، فاجري نحوه وادفعه بعيدا عنها، فتصدمني أنا، فأودع الحياة سعيدا في المستشفى، بعدما أدركك تقف بجواري وأنت تداري حزنا يعتصر قلبك بسخريتك من قصر قامتك ويداك تتشابكان يدي، ويكون ذلك في حضور ابنتي الحبيبة، واحمد صديقك المقرب الذي سيأخذ يدعو لي بالشفاء، ثم بالرحمة حين أموت.
 
ربما تداعيات الشيخوخة والتجارب والوحدة جعلتني اظهر في القصة كبطل يضحي بروحه من اجل أحبائه؟، إذ من الصعب على كثير من البشر تقديم أرواحهم من اجل الآخر، والسؤال الآن " في حال كنت شابا قويا مغرما بالحياة، هل كنت سأقدم على هذا الفعل؟، وليت كان الصوت في الحلم اخترق أذناي في الواقع، لكنه لم يحدث، وثمة حقيقة وهي أن التغييرات التي تعرف حياتنا الروتينية بغير إرادتنا تعد المحرك العظيم الذي يهذب أنفسنا وفي الوقت نفسه يدفعنا للجنون، فمثلا أنت تقول يا الفونس انك لست إنسانا مثقفا، وهذا عاري من الصحة، والحقيقة انك صاحب فكر عظيم، لأنك بمحض إرادتك تعذب نفسك، كون التجارب طالتك مبكرا، وأليس من الجميل الآن أن يحتضن العجوز الأصغر شقيقه الأكبر، ويتقدم له بالشكر على كل ما بذله من اجله؟.      
"تمت"