الأنبا إرميا
تحدثت مقالة «عليك بالعدل» عن أحد أهم أركان السلام بين البشر: «العدل»، إذ السبيل إلى قوة الأمة والإنسان.

والعدل طريق الأمن والأمان: فقد أتى رسول الملك «كسرى» الفارسى إلى الخليفة «عمر بن الخطاب»، ليجده نائمًا على الأرض مفترشًا الرمال فى الشمس، واضعًا رأسه على عصاه التى كانت وسادته، فقال فيه حين رآه على هذه الحال: «رجل يهابه جميع الملوك وتكون هذه حاله!! ولكنك عدَلت فأمِنتَ فنمتَ، يا عمر». وقد تغنى كثير من الشعراء بالعدل، فقال أحدهم داعيا إلى اليقظة فيه:

عَنِ الْعَدْلِ لَا تَعْدِلْ وَكُنْ مُتَيَقِّظًا وَحُكْمُكَ بَيْنَ النَّاسِ فَلْيَكُ بِالْقِسْطِ

وَبِالرِّفْقِ عَامِلْهُمْ وَأَحْسِنْ إِلَيْــهِمْ وَلَا تُبْدِلَنَّ وَجْهَ الرِّضَا مِنْـــكَ بِالسُّخْطِ

وَحَلِّ بِدُرِّ الْحَقِّ جِيدَ خَصَـامِهِمْ وَرَاقِبْ إِلٰهَ الْخَلْقِ فِى الْحِــلِّ وَالرَّبْطِ

ثم حث على الإنصاف وحذر من طريق الظلم:

كُنْ مُنْصِفًا وَاسْلُكْ سَبِيلَ التُّقَى فَالْبَغْيُ لَيْلٌ جُنْحُهِ مُظْلِمُ

وَاجْتَنِبِ الظُّلْمَ وَلَا تَأْتِـــهِ وَاللهِ، لَا يُفْلِــحُ مَنْ يَظْلِمُ!

إلا أن جانبًا آخر يجب أن يراعيه راغب العدل بحق: ألا يكيل بـ«مكيالين»، وهنا تبزُغ أبيات للشاعر «جبران خليل جبران» عن العدل، جديرة بالذكر والتذكر:

وَالْعَدْلُ فِى الْأَرْضِ يُبْكِى الْجِنَّ لَوْ سَمِعُوا بِهِ وَيَسْتَضْحِكُ الْأَمْوَاتَ لَوْ نَظَـــرُوا

فَالسَِّجْنُ وَالْمَوْتُ لِلْجَانِينَ إِنْ صَغُرُوا وَالْمَجدُ وَالْفَخْرُ وَالْإِثْرَاءُ إِنْ كَبُـرُوا

فَسَـــارِقُ الزَّهْرِ مَذمُــومٌ وَمُحْتَقَرٌ وَسَارِقُ الْحَقْلِ يُدْعَى الْبَاسِلُ الْخَطِرُ

وَقَـاتِلُ الْجِسْمِ مَقْتُولٌ بِفِعْلَتِـهِ وَقَـاتِلُ الرُّوحِ لَا تَدْرِى بِهِ الْبَشَـرُ

تتحدث الأبيات عمن يتبنى سياسة «المكيالين» فى الحكم، وهو نهج أبعد ما يكون عن أى عدل، فالإنسان العادل لا يغير أحكامه مهما تغير أمامه طالب العدالة. وأود الإشارة إلى تعبير «ازدواجية المعايير» أو «الكيل بمكيالين» الذى يشير إلى أى مجموعة من المبادئ المتضمنة أحكامًا تختلف نحو مجموعة من الناس مقارنةً بمجموعة أخرى. وبدايةً، علينا إدراك أن لا معايير مزدوجة عند الله الذى أحكامه حق وعدل دائمًا، ولذا يذكر «الكتاب» أن الله لا يحابى: «الَّذِى لَا يُحَابِى بِوُجُوهِ الرُّؤَسَاءِ، وَلَا يَعْتَبِرُ مُوسَعًا دُونَ فَقِيرٍ. لِأَنَّهُمْ جَمِيعَهُمْ عَمَلُ يَدَيْهِ»، «لِأَنْ لَيْسَ عِنْدَ اللهِ مُحَابَاةٌ»، بل يجازى من يحابى: «وَأَمَّا الظَّالِمُ فَسَينَالُ مَا ظَلَمَ بِهِ، وَلَيْسَ مُحَابَاةٌ»، والمعايير المزدوجة مكرهة لديه، لذلك أوصى الإنسانَ أن يسلك دون محاباة: «لَا تَعْمَلَ شَيْئًا بِمُحَابَاةٍ»، لذا أوصى الملك «يهوشافاط» القضاة: «وَالْآنَ لِتَكُنْ هَيْبَةُ الرَّبِّ عَلَيْكُمُ. اِحْذَرُوا وَافْعَلُوا. لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَ الرَّبِّ إِلهِنَا ظُلْمٌ وَلَا مُحَابَاةٌ وَلَا ارْتِشَاءٌ»»، وقال «سليمان الحكيم»: «هذِهِ أَيْضًا لِلْحُكَمَاءِ: مُحَابَاةُ الْوُجُوهِ فِى الْحُكْمِ لَيْسَتْ صَالِحَةً». والله لا يقبل المحاباة فى الحكم أو التعامل، ولا الوزن «بمكيالين»: «مِعْيَارٌ فَمِعْيَارٌ، مِكْيَالٌ فَمِكْيَالٌ، كِلاَهُمَا مَكْرَهَةٌ عِنْدَ الرَّبِّ». فإن كان الغش فى البيع والشراء مكروه عند الله، إذ يقول: «لَا يَكُنْ لَكَ فِى كِيسِكَ أَوْزَانٌ مُخْتَلِفَةٌ كَبِيرَةٌ وَصَغِيرَةٌ. لَا يَكُنْ لَكَ فِى بَيْتِكَ مَكَايِيلُ مُخْتَلِفَةٌ كَبِيرَةٌ وَصَغِيرَةٌ. وَزْنٌ صَحِيحٌ وَحَقُّ يَكُونُ لَكَ، وَمِكْيَالٌ صَحِيحٌ وَحَقٌّ يَكُونُ لَكَ، لِكَى تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِى يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. لِأَنَّ كُلَّ مَنْ عَمِلَ ذلِكَ، كُلَّ مَنْ عَمِلَ غِشًّا، مَكْرُوهٌ لَدَى الرَّبِّ إِلٰهِكَ»، فكم يكون الأمر عند الحكم على البشر وفى المعاملات الإنسانية؟!!

و«القرآن» يحذر من عدم إيفاء الموازين حقها وعدلها للبشر جميعًا: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾، ويوصى بعدالة الكيل: ﴿أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْاْ فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُوا الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ﴾، وأيضًا: ﴿›وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾، وبأن العدل للجميع على حد سواء: ﴿وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُا وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.

لذلك الإنسان العادل يعامل الجميع بمساواة تامة، فيعطى كل ذى حق حقه.. والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!

* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم