الكاتب : جى دو موباسان

ترجمة : نجيب محفوظ نجيب.
ثلاث صفحات من كتاب صياد  .....
لقد أنتهيت من قراءة دراما عاطفية فى خبر. لقد قتلها ثم قتل نفسه فقد كان يحبها. ماذا يهم هو وهى؟ حبهم وحده يهمنى. و حبهم يهمنى ليس لأنه يترفق بى أو يفاجئنى ، أو لأنه يحركنى أو يجعلنى أفكر ، ولكن لأنه يذكرنى بذكرى شبابى ، ذكرى غريبة للصيد ظهر فيها الحب. كما كانت تظهر الصلبان للمسيحيين الأوائل فى منتصف السماء.
 
لقد ولدت بكل غرائز وحواس الإنسان البدائى  التى خففت بواسطة العقل و العواطف المتحضرة. احب الصيد بشغف؛ والطائر الذى ينزف، الدم على الريش، الدم على يدى، يوتر قلبى و يجعله يرتعش.
 
في هذا العام، قرب نهاية الخريف، جاء البرد فجأة، واستدعانى أحد أبناء عمومتى، كارل دو راوفيل Karl de Rauville للذهاب معه لصيد البط فى المستنقعات عند الفجر.
 
أبن عمى، البالغ من العمر أربعين عامًا، ذو الشعر الأحمر، القوى جدًا والملتحى، رجل ريفى، نصف متوحش ودود، ذو شخصية مرحة، موهوبًا بتلك الروح الغالية التى تجعل من الأمور المتوسطة أمورا  ممتعة ، كان يعيش فى قصر المزرعة فى واد واسع حيث كان يجرى نهر.
 
كانت الغابة تغطى التلال على اليمين واليسار، غابة فخمة قديمة حيث كانت تبقى الأشجار الرائعة وحيث كان يوجد أندر الطيور ذات الريش فى كل هذا الجزء من فرنسا. فى بعض الأحيان كانت النسور تُقتل هناك؛ والطيور التى تعبر، تلك التى نادراً ما تأتى إلى بلادنا المكتظة بالسكان ، كانت تتوقف بشكل محقق على هذه الأغصان القديمة كما لو أنها قد عرفت أو تعرفت على ركن صغير من الغابة التى من العصور القديمة التى بقيت هنا لكى تستخدمها الطيور كمأوى فى مرحلة توقفهم الليلية القصيرة.
 
فى الوادى، كانت توجد مراعى شاسعة تسقيها القنوات وتفصل بينها أسيجة؛ ثم، بعيدا، النه، الذى يشق خلاله قناة حتى هنا، كان ينتشر فى مستنقع شاسع. كان هذا المستنقع، أجمل منطقة صيد رأيتها فى حياتى، كان مصدر قلق لأبن عمى الذى كان يعتنى به كمتنزه. من خلال القصب الهائل الذى كان يغطيه، و يجعله حيًا، وحفيفًا، وعاصفًا، كنا قد قمنا بتتبع أثر طرق ضيقة حيث كانت تمر القوارب المسطحة، التى تقودها وتوجهها المجاديف، صامتة، على المياه الميتة، تكاد تلمس الخيزران، كانت تجعل الأسماك تهرب سريعا خائفة من خلال الأعشاب والدجاج البرى الذى كان يختفى فجأة رأسه الأسود المدبب.
 
أنا أحب المياه بشغف فوضوى : البحر، على الرغم من ضخامته، مضطرب جدًا، من المستحيل إمتلاكه، الأنهار، جميلة جدًا، لكنها تمر، وتهرب، وتذهب بعيدًا، وخاصة المستنقعات حيث يرتعش خوفا كل الوجود الغير معروف للحيوانات المائية. المستنقع هو عالم كامل على الأرض، عالم مختلف، له حياته الخاصة، وسكانه المستقرون، والمسافرون العابرون، وأصواته، و ضوضاءه، و خاصة غموضه. 
لا يوجد ما هو أكثر إزعاجًا، أو قلقا، أو أكثر إثارة للخوف، في بعض الأحيان، من مستنقع. لماذا هذا الخوف الذي يخيم على هذه السهول المنخفضة المغطاة بالماء؟ هل هى أمواج ضجيج القصب، أم الشعلات الغريبة المتقدة، أم الصمت العميق الذى يحيط بها فى الليالي الهادئة، أم الضباب الغريب، الذى يسحب على الخيزران مثل فساتين الموتى، أو حتى هدير و تلاطم الأمواج غير المحسوس، الخفيف جدًا ، الناعم جدًا، وأحيانًا أكثر رعبًا من مدفع الرجال أو رعد السماء، مما يجعل المستنقعات تبدو مثل بلاد الأحلام، بلاد مروعة تخفى سرًا غير معروفا و خطيرًا.
 
 
لا. شىء آخر ينبثق، سر آخر، أكثر عمقا، أكثر خطورة، يطفو في الضباب الكثيف، ربما يكون سر الخلق ذاته! أليس في المياه الراكدة والموحلة، فى الرطوبة الثقيلة للأراضى الرطبة تحت حرارة الشمس ، تحركت بذرة ( أصل ) الحياة الأولى، التى أهتزت، و أزدهرت؟
 
كنت قد وصلت إلى أبن عمى فى المساء. كان الجو جليد يذيب و يقسم الحجارة.
أثناء العشاء، في الحجرة الكبيرة حيث البوفيهات والجدران والسقف الذى كان يغطيه طيور و معها القش، بأجنحة ممدودة، أو جاثمة على أغصان معلقة بالمسامير، والصقور، ومالك الحزين، والبوم ، والطيور الليلية، والصقور، والنسور، وأبن عمى الذى هو نفسه يشبه طائر غريب من البلدان الباردة، مرتديًا سترة من جلد عجل البحر، كان يحكى لى عن الترتيبات التى قام بها لتلك الليلة بالذات.
أضطررنا إلى المغادرة فى الساعة الثالثة والنصف صباحًا، من أجل الوصول فى حوالى الساعة الرابعة والنصف إلى النقطة التى تم اختيارها للمراقبة. تم بناء كوخ فى هذا المكان بقطع من الجليد لحمايتنا قليلاً من الرياح الرهيبة التي تسبق اليوم، هذه الرياح المحملة بالبرد التي تمزق اللحم مثل المناشير، تقطعها كالشفرات، وتوخزها مثل الشفرات السامة. تلويها مثل الكماشة وتحرقها مثل النار.
 
كان أبن عمى يفرك يديه و يقول: " لم أر قط مثل هذا الهلام ، لقد كنا بالفعل تحت الصفر بمقدار 12 درجة في الساعة السادسة مساءً . "
 ذهبت لكى أستلقى على سريرى بعد الوجبة مباشرة، ونمت على ضوء شعلة اللهب الكبيرة التى تشتعل فى مدخنتى.
فى الثالثة صباحا أيقظونى. أرتديت بدورى جلد خروف ووجدت أبن عمى كارل Karl  مغطى بفراء الدب. بعد أن شرب كل منا كوبين من القهوة الساخنة متبوعًا بكأسين من الشمبانيا الفاخرة، غادرنا برفقة حارس وكلابنا:
Plongeon et Pierrot.
 
من الخطوات الأولى فى الخارج، شعرت بالتجمد حتى العظم. كانت تلك إحدى الليالى التى بدت فيها الأرض متجمدة حتى الموت. يصبح الهواء المتجمد مقاومًا وملموسًا كما يؤلم؛ لا نفس يزعجه.
 
إنه متجمد لا يتحرك. يعض، يعبر، يجفف، يقتل الأشجار والنباتات والحشرات، حتى الطيور الصغيرة التى تسقط من الأغصان على الأرض الصلبة، تصبح قاسية مثله تحت قبضة البرد.
 
كان القمر، فى ربعه الأخير، يميل كله على جانبه ، شاحبًا، كان يبدو باهتًا فى منتصف الفضاء، وضعيفًا جدًا لدرجة أنه لا يستطيع أن يذهب بعيدًا، لدرجة أنه كان يبقى هنا عاليا، مقيدا للغاية، مشلولًا من قساوة السماء.  كان ينشر الضوء الجاف والحزين على العالم ، ذلك الوهج المحتضر الشاحب الذى يلقيه علينا كل شهر فى نهاية قيامته.
 
ذهبنا جنبًا إلى جنب، أنا وكارل  Kar، وظهرنا منحنى، وأيدينا في جيوبنا والبندقية تحت ذراعينا. أحذيتنا المغطاة بالصوف لكى نستطيع أن نمشى دون أن ننزلق على النهر المتجمد و لكى لا يصدر أى صوت؛ و كنت أشاهد الدخان الأبيض الذى كانت تتنفسه كلابنا.
 
سرعان ما كنا على حافة المستنقع، ودخلنا أحد أزقة القصب الجاف التى كانت تتقدم عبر هذه الغابة المنخفضة.
 
كان كوعنا، وهو يكاد يلمس الأوراق الطويلة التي تشبه الشريط ، يترك صوتا طفيفا وراءنا؛ وشعرت أننى محاصر، كما لم أكن من قبل، بالعاطفة القوية والفريدة التي تثيرها المستنقعات فى نفسى. كان ميتًا ، هذا الشخص، متجمدًا حتى الموت، لأننا كنا نسير فوقه، في وسط مجموع من الخيزران الجاف.
فجأة، عند منعطف أحد الأزقة، رأيت كوخ الجليد الذي تم بناؤه لكى يكون ملجأ لنا. دخلت، وبما أنه لا يزال أمامنا ما يقرب من ساعة لإنتظار استيقاظ الطيور الضالة ، فتغطيت ببطانيتى لكى أحاول تدفئة نفسى. إذا، مستلقيا على ظهرى، بدأت أنظر إلى القمر المشوه، الذى كان له أربعة قرون من خلال الجدران الشفافة الغامضة لهذا المنزل القطبى.
 
لكن برد المستنقع المتجمد، برد تلك الجدران، البرد الذي سقط من السماء سرعان ما أخترقنى بطريقة مروعة لدرجة أنني بدأت في السعال.
كان أبن عمي كارل قلقًا : " دعنا إذا لم نصطد الكثير اليوم، لا أريدك أن تصاب بالزكام ؛ سوف نقوم بإشعال النار. وأمر الحارس بقطع بعض القصب.
صنعنا كومة منها فى وسط كوخنا الذى تم تحطيمه من أعلى للسماح بصعود الدخان ؛ وعندما أرتفع اللهب الأحمر  بطول الحواجز الشفافة من الكريستال ، بدأ فى الذوبان، بهدوء، وبالكاد، كما لو كانت تلك الأحجار الجليدية قد تعرقت.
صاح  كارل Karl الذى بقى بالخارج: " تعال وانظر! " خرجت و بقيت مذهولا من الدهشة. بدا كوخنا المخروطى الشكل وكأنه ماس وحشى بقلب من نار ينبت فجأة فوق المياه المتجمدة للمستنقع.
 
وفي الداخل، كان يرى شكلين رائعين، كلابنا كانت تقوم بتدفئة نفسها.
 
لكن صرخة غريبة، ضائعة،تائهة ، مرت فوق رؤوسنا. أيقظ توهج منزلنا الطيور البرية.
 
لا شىء يحركنى مثل صخب الحياة الأول الذى لا يرى والذى يمر عبر الهواء المظلم، بسرعة كبيرة، بعيدا، قبل أن يظهر فى الأفق أول ضوء في أيام الشتاء. يبدو لي في هذه الساعة الباردة من الفجر أن تلك الصرخة العابرة التي يحملها ريش الحيوان هى تنهيدة من روح العالم!
كان يقول كارل" Karl  أطفئوا النار. ها هو الفجر. "
 
كانت السماء قد بدأت بالفعل فى الشحوب، و تركت قطعان البط خطوطًا طويلة وسريعة، سرعان ما تمحى فوق السماء.
أندلع ضوء فى الليل، كان كارل قد أنتهى Karl من إطلاق الرصاص؛ وأندفع الكلبان إلى الأمام.
لهذا، من دقيقة إلى دقيقة، أحيانا يكون هو أحيانا أكون أنا نتكيف بسرعة بمجرد ما كان يظهر ظل سرب طائر فوق القصب. وجلب لنا Pierrot و Plongeon ، اللطيفين والسعداء ، طيور تنزف دماءا كانت لا تزال عيونهم تنظر إلينا أحيانا.
 
كان النهار يشرق، يوم أزرق صافٍ؛ كانت الشمس تظهر فى عمق الوادى وكنا نفكر في الأنطلاق مرة أخرى ، عندما أنزلق فجأة طائران، العنق مستقيم و الأجنحة ممدودة، فوق رؤوسنا.
أنا أطلقت الرصاص. سقط أحدهم عند قدمى. كان بط برى ذو بطن فضى. إذا، فى الفضاء فوقى، صوت، صوت طائر يصرخ. كانت شكوى قصيرة ، متكررة ، مؤلمة. وبدأ الطائر الصغير الذى أفلت، يدور فى السماء الزرقاء فوقنا ، ناظرًا إلى رفيقه الميت الذى كنت أمسك به بين يدى.
 
كان كارل  Karl، ينحنى على ركبتيه، البندقية على الكتف، و العين نارية، يراقبه، ينتظره لكى يكون قريبا بما فيه الكفاية.
 
- قال لى : لقد قتلت الأنثى، و سوف لا يذهب الذكر. بالتأكيد سوف لا يذهب أبدا.
 
كان لا يزال يدور ويبكى من حولنا. لم يمزق قلبي أبدًا أنينًا من الألم مثل النداء المؤسف، مثل اللوم الباكى لهذا الطائر المسكين التائه فى الفضاء.
 
فى بعض الأحيان كان يهرب تحت تهديد السلاح الذى كان يتبع طيرانه؛ يبدو و كأنه مستعد لمواصلة رحلته وحده عبر السماء. لكنه لا يستطيع أن يتخذ القرار، سرعان ما كان يعود للبحث عن أنثاه.
 
 - أتركها على الأرض ، قال لى كارل Karl، وسوف يقترب لاحقًا.
كان يقترب، فى الواقع، غير مكترث بالخطر، مذهولًا بحبه للطائر، من أجل الطائر الآخر الذى كنت قد أصطدته.
أطلق كارل Karl الرصاص؛ كان الأمر كما لو أن الحبل الذى يحمل الطائر المعلق قد تم قطعه. رأيت شيئًا أسود يسقط. سمعت صوت سقوط فى القصب. وأحضره     Pierrot إلى.
لقد وضعت الطائرين، و هما بالفعل باردان ، فى نفس حقيبة الطيور  .....
و رحلت فى هذا اليوم إلى باريس .....
 
7 ديسمبر 1886