الأنبا إرميا
تحدثت المقالة السابقة عن إحدى أهم قواعد السلام المجتمعىّ: «التعايش باحترام». وفى عمق الاحترام، نرى سمات الإنسانية التى خُلقنا عليها، ما يجعل أى عَلاقة إنسانية خالية منه غير سوية. وقد أكدت وصايا الأديان أهمية تمسك الإنسان بالاحترام نحو الآخرين.
ومن أهم أسس السلام التى لا تقوم من دونها المجتمعات: «العدل»؛ فقد قيل إنه «قوة الأمة»، كما قال «تشرشل» إن غيابه علامة ضعف الأمم: «أجمعَ تاريخ البشرية على حقيقة أن الأمم لا تكون عادلة دائمًا عندما تكون قوية. وعندما تتمنى تلك الأمم العدل، فهٰذا يعنى أنها لم تعُد قوية». كذٰلك ارتبط العدل بالفضائل؛ إذ قيل إنه يحويها جميعًا: «العدالة تشتمل على كل الفضائل». والعدل هو سر قوة الإنسان؛ فقد ذكر «الإسكندر الأكبر»: «ينبغى لمن تمسَّك بالعدل ألا يخاف أحدًا». وهٰكذا تكمن قوة الأمم والملوك: فى العدل والعادلين. وما من شك أن أىّ نظام اجتماعىّ ناجح يثبَّت على العدل؛ فيقول «الكتاب»: «أَزِلِ الشِّرِّيرَ مِنْ قُدَّامِ الملك، فَيُثَبَّتَ كُرْسِيُّهُ بِالْعَدْلِ».
والعدل من صفات الله؛ إذ هو- تبارك اسمه- عادل ويحب العدل، وحين خلق الإنسان وضع فيه صفة «العدل»، ومن ثَم طالب البشر بأن يسلكوا بالعدل، فيقول «الكتاب»: «وَأَمَرْتُ قُضَاتَكُمْ فِى ذٰلِكَ الْوَقْتِ قَائِلاً: اِسْمَعُوا بَيْنَ إِخْوَتِكُمْ وَاقْضُوا بِالْحَقِّ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَخِيهِ وَنَزِيلِهِ. لَا تَنْظُرُوا إِلَى الْوُجُوهِ فِى الْقَضَاءِ. لِلصَّغِيرِ كَالْكَبِيرِ تَسْمَعُونَ. لَا تَهَابُوا وَجْهَ إِنْسَانٍ لِأَنَّ الْقَضَاءَ للهِ». وأوصى الله الإنسان أن يكون محاميًا بالعدل عن المساكين: «اِفْتَحْ فَمَكَ. اِقْضِ بِالْعَدْلِ وَحَامِ عَنِ الْفَقِيرِ وَالْمسْكِينِ». والله لا يقبل الظلم أو المحاباة: «وَالْآنَ لِتَكُنْ هَيْبَةُ الرَّبِّ عَلَيْكُمُ. احْذَرُوا وَاِفْعَلُوا. لأنه لَيْسَ عِنْدَ الرَّبِّ إِلٰهِنَا ظُلْمٌ وَلاَ مُحَابَاةٌ وَلاَ ارتشاء».
ويوصى «القرآن»: ﴿إنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّواْ الأماناتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾، وأيضًا أوصى الله بالعدل والإحسان: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِى الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَآءِ والمنكر وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾. وينبه الحديث: ««يَا عِبَادِى: إنِّى حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تظالموا...».».
وحين يعدل الإنسان تجاه غيره، فإنه إنما يعترف به فى المجتمع وبحقوقه ويحترمها، لأنه يوقن أن الآخر دائمًا بالنسبة إليه هو شخص مساوٍ له فى الكرامة الإنسانية، ولكل أفراد المجتمع الحقوق نفسها وعليهم الواجبات عينها، وأن على الجميع- كما ذكرنا سابقًا- أن يحترموا حريات الآخرين. ورُب إنسان عادل فى أحكامه، لكنه متى اختلف تحول اختلافه إلى خلاف، ويتخلى عن عدله، متذرعًا لنفسه بالمبررات أمام مخالفيه!، وهٰذا مرفوض من الأديان؛ فإن كان بينك وبين أحد خلاف أو عداوة ولا تستطيع أن تُزيلهما، فعلى الأقل لا تَزيدهما سوءًا بإطاعة ما بك من ضغينة نحوه فتضحى ظلما!!، بل كما يقول «الكتاب»: «إِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ»، فإن كان «الكتاب» يدعو إلى عمل الخير تجاه الأعداء، أفنظلم من يخالفوننا؟!!، وأيضًا يذكر «القرآن»: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾. إن اختلافك أو خلافك مع الآخرين لا يبرر ظلمك إياهم!، والعدل لكل إنسان؛ فيذكر الإمام «علىّ بن أبى طالب»: «عَلَيكَ بِالْعَدْلِ فِى الصَّدِيقِ وَالْعَدُوِّ». ومن نماذج العدل التاريخية الشهيرة الخليفة «عمر بن الخطاب»، الذى بات عدله مضرِب الأمثال.
و... والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم
