حسام بدراوي
قالت لى الشابة النابهة: ما هى أهم المهارات التى يحتاجها الشباب للعمل الآن وفى المستقبل يا دكتور؟

قلت: أهم ثلاث مهارات مطلوبة حاليًا فى سوق العمل هى: العمل الجماعى، ومهارات التواصل والاتصال، والقدرة على التكيف مع التغيير. يُضاف إليها مهارات القيادة التى تحتاجها العديد من الوظائف على مستويات متعددة.. وطبعًا هذا بالإضافة إلى المهارات الرقمية واستخدام الحاسب الآلى، ومعرفة لغة ثانية بجانب اللغة العربية.

قال زميلها: طبعًا هذا خارج نطاق التخصصات مثل الطب والهندسة والكليات العسكرية والكليات العملية!

قلت: لا يا ابنى، هذه المهارات يحتاجها الطبيب والمهندس والضابط والمدرس وكافة التخصصات، فلا مكان فى العمل اليوم وقطعًا فى المستقبل لمن لا يملكها.

قالت شابة أخرى: يقال إن عددًا كبيرًا من وظائف اليوم ستختفى وتظهر وظائف جديده، مما سيُصَعِّب على طالبى العمل الأمر؟

قلت: بلغة الأرقام، هذه حقيقة، ملايين الوظائف ستختفى خلال السنوات الخمس المقبلة، وأغلب هذه الوظائف هى التى يغلب عليها النمط التكرارى. إلا أنه فى المقابل سوف تُخلق ملايين أكثر من الوظائف الجديدة.

وهذا يعنى توسيع شريحة الوظائف المتاحة وليس نقصها. فمن لم يستطع العمل كسائق أجرة فى السابق من الممكن أن يعمل الآن كسائق أوبر، ولكنه سيحتاج مهارات جديدة، ومن لم يستطع العمل فى خدمة العملاء فى مكان العمل أصبح بإمكانه أن يعمل بالوظيفة نفسها من منزله.

بعض الوظائف ستختفى مثل وظيفة إدخال المعلومات والبيانات، لأنه بنمو الإدارة الرقمية سيتم ذلك عن طريق الأتمتة وجمع المعلومات عبر البيانات الضخمة (Big Data).

إن التخصصات تتبدل تمامًا كما تغيَّرت منصات العمل. وأذكر هنا تخصصات لم نعرفها من قبل مثل مطوّرى الواقع الافتراضى ومهندسى السيارة ذات القيادة الذاتية وغيرهم، مثل محللى البيانات، ومحللى نظم الكمبيوتر، وإخصائى أمن المعلومات، وصناع ومحللى الأكواد، والتسويق الإلكترونى ومصممى البرمجيات. وللأسف فإن أغلب التخصصات الجديدة لا نجد لها قاعدة فى الجامعات بل تقوم بإعداد الشباب لها الشركات الكبرى.

لقد أصبح التعليم والتدريب افتراضيًا واقعًا، من دون الحاجة لشراء أراضٍ أو استئجار مبانٍ وإنفاق المليارات. وتظهر وستظهر هذه الشهادات متناهية الصغر (Nanodegree) التى لا تُكلف الراغبين موارد كبيرة، ودبلومات مهنية لرفع مستوى أداء الموظفين.

نظر إلىَّ الشاب وقال: وماذا تقصد بالأتمتة يا دكتور؟ وهل معنى كلامك أن التعليم فى الجامعات والمدارس لن يكون المكان الوحيد للتعليم أو لمنح الشهادات؟

قلت: أولاً مصطلح الأَتْمَتَة أنا لم أكن أعرفه إلا بعد قراءتى لعدد من التقارير حول مستقبل الوظائف والعمل فى المستقبل، وهو مصطلح مُعَرَّب يعنى التَّشْغِيل الآلِى، وهو مصطلح مستحدث يُطلق على كل شىء يعمل ذاتيًا بدون تدخل بشرى. ويمكن وصف الأتمتة بأنها استخدام الكمبيوتر والأجهزة المبنية على المعالجات أو المتحكمات والبرمجيات فى مختلف القطاعات الصناعية والتجارية والخدمية من أجل تأمين سير الإجراءات والأعمال بشكل آلى دقيق وسليم وبأقل خطأ ممكن. باختصار الأتمتة هى فن جعل الإجراءات والآلات تسير وتعمل بشكل تلقائى بكفاءة أكبر وزمن أقل وبدون تدخل إنسانى.

أما بخصوص سؤالك عن الجامعات ومنح الشهادات، فمعك حق. الجامعات بشكلها التقليدى عليها أن تتغير، لأن سوق العمل يسبقها فى التطوير والابتكار وإلا ستفقد وظيفتها فى صنع المستقبل.

إن التعليم العالى لا ينبغى أن نفكر فيه كرد فعل لحالة سوق العمل الحالية، أو نسب البطالة أو حال مهنة من المهن فى لحظة زمنية بعينها.. إلا أنه سيظل هذا النوع من التعليم الذى يرسم ملامح المستقبل، ويبنى البشر القادرين على صنع التنمية وليس ملء فراغ الاحتياجات فقط.. يبنى الإنسان صانع الفرصة ومحققها وليس فقط المستفيد منها. يؤهل الشباب ويبنى الشخصية السوية التى تحترم الاختلاف وتبتعد عن التطرف.

إن السؤال الأهم هو: ماذا نعتبر الجامعات، بانية حضارة أم مقدمة خدمات تعليميه وتدريبية؟ لأن ذلك سيخلق الفارق فى نظرتنا إلى هذه المؤسسات.

قالت الشابة اللامعة الذكية: ما هى يا دكتور وظيفة الجامعة أساسًا لنجيب على سؤالك؟

قلت: تولت الجامعات عبر القرون عددًا من الوظائف الاجتماعية. ويشكل تنوع مثل هذه الوظائف الشخصية الفريدة التى تكتسبها الجامعة. وتحتاج كل الجامعات إلى «التكاثر» و«الانتشار» و«التطور» فى ذات الوقت، كما أنها تحتاج إلى معرفة أسباب التغير أو أسباب التمسك بالتقاليد. ولكى يتسنى لها القيام بهذا عليها أن تتشكك فيما تم اكتسابه، وتختبر أيضًا أنماط التفكير المختلفة الموجودة فى المجتمع. كما أن على الجامعة أن تقوم بالمخاطرة بتقديم كل ما هو غير متوقع للمجتمعات التى تستسهل بقاء الأمر كما هو عليه بل وتحارب التجديد والتغيير حفاظًا على الواقع الذى تم التعود عليه حتى ولو كان منتقدًا.

قال شاب آخر: هل يعنى كلامك أن الجامعات تجسد عمليات التغيير فى المجتمع؟.. هذا ما لا نراه يا دكتور لأننا نرى الجامعات تلهث وراء الصناعات والتكنولوجيا الواردة من سوق العمل وليس العكس!

قلت: الأصل أن دورها فى المجتمع هو ابتكار الجديد واستيعابه، ونقل وصنع المعرفة، وتحقيق التناغم والتكيف ما بين المعرفة وكيفية الحصول عليها واستخدامها فى وقتنا الحاضر، ومتطلبات المستقبل. وبناءً على هذا فإن دور المؤسسات الأكاديمية يتأكد فى البحث والتدريس وتقديم العون لكل الأنشطة على أساس قدرتها على المعارضة (البعد الانتقادى) والموافقة (الحاجة إلى الالتزام)، وبدون البعد الأكاديمى البحثى والقيم الأساسية للمجتمع البحثى فإن التقدم الذى ننشده قد ينقلب إلى فوضى.

وبإيجاز شديد، إننا نواجه بلاشك تغيرات سريعة جدًا فى وسط عالم متغير اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وعلميًا وتكنولوجيًا. فالتحدى الذى يواجه النظم التعليمية كبير، وإذا كان معدل التغيير داخل أى مؤسسة تعليمية أبطأ من معدل التغيير الحاصل خارجها فلننتظر عندئذ نهايتها فى المدى المنظور.

فالنظام التعليمى الذى يتجاهل المستجدات والتغيرات التى تشكل الغد ينهى بذلك علاقته أو ارتباطه بحياة الطلاب، وسيضمحل شيئًا فشيئًا. ولهذا يجب إعادة صياغة مؤسساتنا التعليمية منذ ما قبل المدرسة إلى الكلية، لنعدّ طلابنا الإعداد المناسب للمستقبل وليس للماضى.

الأمر يستوجب من المؤسسات الأكاديمية، التى تأمل فى أن تظل قادرة على المنافسة، أن تكون سبَّاقة فى تحديث برامجها الأكاديمية.

وأعود إلى برامج التعليم عن بُعد والبرامج التعليمية على الإنترنت فى اكتساب قوة دافعة للتعلم، مما يحتم على المعاهد والجامعات، تضمين تقنيات الواقع الافتراضى فى برامجها، والسماح بهذا النوع من الجامعات فى الظهور والانتشار، لتوفير بيئة تساعد فى تحديث المهارات وتسهيل عملية التحوُّل الوظيفى للشباب.

أنا هنا، لا أنسى أَنْسَنة التعليم رغم رقمنته.. أنا أعيد التذكير برؤية مصر ٢٠٣٠، التى أوضحت كل ما قلته لكم بوضوح، وهى الرؤية التى لا أحس بوجودها رغم أهميتها لدى الحكومة أو الإعلام أو البرلمان.

إننى أرى فى رؤية مصر 2030 خمسة محاور أساسية تصب فى كل ما قلناه، أولها الإتاحة وعدم التمييز والجودة، وثانيها حوكمة إدارة المنظومة التعليمية ورقمنتها بلا مركزية لا تحتمل المقايضة، وثالثها رقمنة التعليم وبناء البنية التحتية التى تؤكد أن يكون الطالب فى منزله والمدرس فى مدرسته وأستاذ الجامعة وإدارتهم تفكر رقميًا وتعمل رقميًا وتنتج رقميًا، ورابعها بناء الشخصية المصرية المتسامحة المحبة للجمال التى تعمل كفريق، المؤمنة بالحرية، الفخورة بماضيها، ولديها الأمل فى مستقبلها، ولا يكون ذلك ممكنًا بدون المدرسين القادرين، الذين يقودون معايشة الطلاب داخل المؤسسة التعليمية، ولا يتم ذلك بدون ممارسة الرياضة والفن، وتعلم تذوق الجمال والعمل المجتمعى، وأخيرًا رفع القدرة التنافسية لأطفالنا وشبابنا إلى سقف المعايير العالمية.
نقلا عن المصرى اليوم