فاطمة ناعوت
فى كل «عيد حب»، يوم ١٤ فبراير، وزوجى يقدّم لى هدية الڤلانتين، أتذكّر الجملةَ العبقرية التى قالتها صديقتى الجميلة «هالة صدقى» فى فيلم «خلطة فوزية». جلست السيدةُ شاردةَ العقل مع شقيقها على حافة النافذة، ينظران إلى بحر الإسكندرية. وفجأة نظرتْ إليه وهتفتْ بفرح طفولىّ: (فاكر البرنيطة اللى جبتهالى واحنا صغيرين؟!!) وحين اكتشفتْ أن شقيقها لا يتذكر، قالت بأسى: (البرنيطة أمّ شريطة صفراء! الرجالة بينسوا الحاجات دى! لسّه شايلاها لغاية دلوقت) أدهشها أن شقيقها قد نسى تلك الهدية «الهائلة»، التى صارت كنزَها الخاص ونقطة ارتكاز فى حياتها! لدرجة أنها انتشلتها من تحت أنقاض العمارة التى انهدمت على رؤوس قاطنيها فقتلت منهم من قُتل! لكن «البرنيطة أمّ شريطة صفراء» كانت عصيةً على الفناء. «البرنيطة» تحمل سرَّ الخلود الذى لم يتعلّمه البشرُ. تلك هى الفكرة المدهشة التى أراد المخرج المثقف «مجدى أحمد على» أن يكرّس بها مفهوم «الذكريات» التى تغدو كلَّ ميراثِنا حين نكبُر، وقيمة «الهدايا» التى تصيرُ مع الوقت خزائنَ تلك الذكريات. للجمادِ ذاكرةٌ تحفظُ التواريخ والمشاعر، فلا تستخفوا بها.

كلُّ حبيب يعرفُ ما هى «البرنيطة أم شريطة صفراء» التى سوف تُسعد رفيقة العمر. يبذلُ بعض الجهد والتفكير حتى يحصل عليها ليقدمها لحبيبته. ليس مهمًّا أبدًا أن تكون غالية الثمن، أو أن يكون لها ثمنٌ على الإطلاق. يمكنُ لأصيص فخارىّ يحمل أوراقَ نعناع خضراء أو عود ياسمين يشرقُ فى الطمى الأسود؛ أن يكون «البرنيطة» المنشودة. المهم أن يقدّمَ الحبيبُ تذكارًا يقول ما لا تقوله الكلماتُ. أتذكرُ الآن «هند صبرى»/ الزوجة المطحونة فى فيلم «أحلى الأوقات» حين قالت لزوجها بأسى: (عاوزة ورد يا إبراهيم! طول عمرى نفسى فى ورد! مافكرتش مرة تجيبهولى فى عيد جواز، ولا فى عيد حب، ولا فى ٦ أكتوبر حتى!) هذا زوجٌ ظنَّ أن الأولاد ومسؤوليات الحياة، قد تُنسى الزوجةَ «البرنيطة» التى تنتظرها من زوجها. لكن صعابَ الحياة تهونُ حين يتعلم الزوجان كيف يصنعان لحظات البهجة، مهما كانت قليلة وشحيحة، وخارجة عن سياق الكدّ والجدّ والكفاح من أجل لقمة العيش الصعبة.

مضى بالأمس عيد فلانتين، كل عامٍ وأنتم مُحبون وقد قدّم كلُّ حبيب وكلُّ حبيبة لرفيق العمر هدية تحملُ رسالة الحبّ. فالحبُّ هو سرُّ الوجود الأعظم وهو اللغزُ الذى منحنا كلَّ هذا الميراث الضخم من الأغنيات والأوبرات، والمسرحيات، والروايات، والقصائد والمقطوعات الموسيقية. الحبُّ هو القوة العجيبة التى دفعت الإنسانَ ليبدع القطع النحتية واللوحات التشكيلية والأساطير. هو الكيمياءُ التى تصنعُ المشاعر وتخطف العقول، وتجلب السعادة مثلما تجلبُ الحَزَن. إنه الحب الذى جَمَّلَ العالمَ وغمر البشرَ بالبهجة والفرح. إنه الحبّ الذى حين يُستخَفُّ به، قد يسبب أشدَّ ألوان العذاب النفسىذ والجسدى والعقلى كذلك. هو لغزٌ اسمه الحبُّ. أحبِّوا، تَصِحّوا، مثل الطفل «كيوبيد» الذى لا يكبر أبدًا. دعونا نقشِّر الكراهيةَ عن أرواحنا، لأنها تؤذينا نحن أكثر مما تؤذى مَن نكره. دعونا نكتشفِ البهجةَ فى الأمور البسيطة، مثل شروق الشمس وتفتح زهرة وحفيف أوراق شجرة، وزقزقة عصفور وعيون طفلة. دعونا نتذكّر أن السعادة مثل حصّالة الأطفال، نضعُ فيها كلَّ ما بوسعنا أن ندخره لأيامنا القادمة. دعونا نتعلّم أن العالمَ مرآةٌ ننظرُ إليها. إن ابتسمنا سوف يبتسمُ العالمُ فى وجوهنا، فلماذا نقطِّبُ الجبينَ فى وجه الناس؟! دعونا لا ننسى حديث النبى: «لن تدخلوا الجنّةَ حتى تحابّوا. ألا أدلّكم على شىء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلامَ بينكم». والسلامُ فى الحديث الشريف لا يعنى أن نقول «السلامُ عليكم»، إنما بالمعنى الواسع الشامل للسلام، الذى يبدأ وينتهى عند ناصية «الحبّ». فأنت لن تسالمَ مَن تكره، بل مَن تحبّ، ولن تأمَن جانبَ، إلا من أحببت، ولن تُؤمّن جانبَ إلا من تُحبّ. دعونا نتأمل فلسفة «الحبّ» بمعناه الأشمل الصحيح. الحبُّ كما أرشدنا إليه أفلاطون فى مثلثه المعروف: الحقُّ- الخيرُ- الجمال.

١٤ فبراير هو يوم إعدام القديس فلانتين الذى كان يُزوّج العشاق سرًّا فى كنيسته رغم أنف الإمبراطور الرومانى الذى منع زواج الجنود. وهو بداية موسم تزاوج الطيور فى إنجلترا وفرنسا. لهذا أصبح سِمةً للرومانسية، يتبادلُ فيه العشاقُ، والأصدقاء، بطاقاتِ التهنئة والهدايا. وترقدُ لليوم، فى مكتبة لندن، أقدمُ تهنئة فى التاريخ، من عاشق لحبيبته فى عيد الحب. وكانت من تشارلز، دوق أورليانز، لزوجته حين كان سجينًا فى برج لندن فى القرن الـ١٥. طوبى لكل من لديه قلبٌ يُحبُّ، وطوبى لَمن يحبّ الوطن. «الدينَ لله، والوطنَ لمن يزرعُ الحبَّ فى الوطن».

twitter:@fatimaNaoot
نقلا عن المصرى اليوم