جميلٌ أن يكونَ الفنانُ مثقفًا. وأن يكون المثقفُ غيرَ منعزل فى برجه العاجىّ، بل منشغلٌ بأزمات مجتمعه وهموم الناس، يتلألأ كقطعة من الألماس مغروسة فى طمى الوطن، مثلما يشعُّ كنجم تحت أضواء الشهرة وفلاشات الكاميرات، فإذا كان الفنانُ مثقفًا عضويًا، اكتملت خيوطُ نسيج الفنان «الحقيقى» صاحب الرسالة.

 
والحقُّ أن «إلهام شاهين» تحقِّقُ تلك المعادلة الصعبة، فعطفًا على كونها موهبة فنية هائلة فى الأداء التمثيلى المركّب، لديها من الثقافة والحسّ الوطنى ما يجعلُها فى بؤرة خانة «الفنان والمثقف العضوى» بتعبير جرامشى. اهتمامُها بمشاكل مجتمعها العارضة والمزمنة يجعلها لا تكتفى بمناقشاتها فى جلساتها الخاصة مع أصدقائها المثقفين فى الندوات والجروبات التنويرية، بل تطرح وتعالج تلك المشكلات فى أفلامها، ممثلةً ومنتجة، تنفقُ ما لديها من مال لتنتجَ أفلامًا شائكةً قد يحجمُ عنها منتجون ينشدون السلامة والربح السهل. فى أفلامها منذ عقدين تدقُّ «إلهام شاهين» نواقيسَ الخطر فى وجه أدران المجتمع العربى، علَّ تغييرًا يحدثُ فى المنظومة المجتمعية والسلوكية بل والقانونية. لهذا حصدت «إلهام شاهين» جائزة «أفضل ممثلة سينمائية» لعام ٢٠٢٠، عن فيلمها الأحدث «حظر تجوال»، من إخراج «أمير رمسيس»، الذى حصد بدوره جائزة «أفضل مخرج» فى مسابقة النقد والصحافة العربية التى تُعقدُ سنويًّا.
 
فى وعينا الجمعىّ، ثمة منطقةٌ نائمة «مطمئنة» لا تحبُّ الإزعاج. منطقة مُغلقةٌ على أعرافٍ سَنّها بشرٌ عاشوا فى زمن مختلف وظرفٍ مغاير، ومُدخلاتٍ معرفية وثقافية ومجتمعية تختلف عن مُدخلاتنا. ورثنا تلك الأعراف واتّبعناها، دون تأمّل، ورحنا نقاتلُ مَن يهجرُها، فوقرتْ فى قلوبنا ونامت ملء جفونها. تلك «المنطقة العمياء» فى وعى المجتمع تضمُّ كلَّ المسكوت عنه من قضايا إشكالية يتجنّب الناسُ مناقشتها، إما خجلًا، أو خوفًا، أو ظنًّا منهم أنها أمورٌ نوقشت وحُسمَت. تتجنّبُ معظمُ الأفلام العربية إثارة تلك المنطقة العمياء، فتغرقُ فى مزيد من النوم الكهفىّ، ويتراكم خمولُها، ويتوغلُ عماؤها.
 
أفلامٌ قليلة، تحاول إزعاج تلك «المنطقة العمياء» وإقلاق نومها، بل تضرب على رأسها بالعصا، فتتقلقلُ، وتتمطّى، وتصحو، ثم تثبُ فزِعةً نحو منطقة الضوء، فيراها الوعىُ الجمعىُّ، ويتأملُها، ويناقشُها ويعيدُ النظرَ فيها، فينظّفُ ما بها من صدأ متجذّر وقيح. هنا تبدأ صحوةُ الوعى ويقظةُ الضمير التى تنهضُ بالمجتمعات. تقعُ الأفلامُ التى تتصدى لها «إلهام شاهين» فى تلك المنطقة المزعجة للضمير المجتمعى، فتثيرُ مشاكلَ هائلة تتعرضُ لها الطفلةُ والصبيةُ والمرأة المصرية، والعربية، مثل انتهاك الجسد، وزنا المحارم وخصوصًا البيدوفيليا، والفقر، ومكافحة التنمرّ الذى ينحرُ المرأةَ حين تواجه الحياة وحيدةً دون عائل «ذكر»، حتى تنضج وتكتشف قواها الداخلية التى تجعلها بحجم الحياة، دون سند ذكورى.
 
فى فيلم «خلطة فوزية»، لا ننسى «فوزية» البسيطة، التى تتمحور أحلامُها فى «حمّام خاص» تدخله دون اختراق العيون لجسدها. تزوجت مراتٍ خمسًا، بحثًا عن «الحنو»، حتى تفجعها الحياةُ بتهشّم ولدها الكسيح تحت عجلات سيارة، فتخرج عن بساطتها وتدخل مع الله فى عتابٍ مُتسائِل تحت شجرة التوت، التى كانت تقطفُ ثمرها لابنها. تهزُّ الشجرةَ بغضبٍ فيتساقط التوتُ. تستنشق رحيقَ الثمر بعمق علّ الثمرةَ (الأنثى) تنبئ الأنثى البشريةَ بما تجهلُ من سرّ الوجود. إنها لحظاتُ البهجة الشحيحة فى حياة المأزومين، حيث الولد المشلول على الكرسى المتحرك، يدفعه الأولادُ فى لهوهم فيطيرُ فوق سماء مصر، يتأمل العالمَ من علٍ ونظرة النشوة تملأ عينيه البريئتين، قبل أن يسقط ويدهمه الموتُ، ويتكسّر حلمُ الأمّ بين نثار دمائه. ومشهد الختام حين يجتمع كلُّ أزواج فوزية السابقين فى محاولة لتبديد حزنها.
 
يبتنون حمّامًا خاصًّا للمرأة الثكلى، التى لم تَزِد أحلامُها عن التحمُّم بعيدًا عن العيون المتطفلة فى الحمام العام. ثم يجمع كل رجل قطعةً من مرايا مكسورة فى نفايات القمامة، ويشيّدون مرآة ضخمة، سوف تجمع صورَهم المتشظية مع فوزية، فى مشهد محبة بريئة يتقن البسطاءُ صنعها بإمكاناتهم الشحيحة، وقلوبهم الغنية. إنه المخرج المثقف «مجدى أحمد على» والفنانة المثقفة «إلهام شاهين». فيلم «يوم للستات» من إخراج «كاملة أبوذكرى» يطرحُ حُلم الفقيرات أن تُصافحَ أجسادُهنّ الجافّة صفحة مياه حمام السباحة كما يشاهدن فى السينما، وفى الهامش نتعرّفُ على أزمات مقهورات هُجرن أو اغتُصبن أو ثُكلن أو حُرمن من أبسط حقوق الإنسان. والحقُّ أن الحديث عن الرسالات المجتمعية العظيمة التى تقدمها الفنانة المثقفة «إلهام شاهين» فى أفلامها يستحقُّ دراسات مطولة يضيقُ عنها مقالٌ كهذا. عطاؤها لا ينتهى وتقديرُنا لها عظيم. شكرًا صديقتى الجميلة لما تقدمينه لوطنك ولبنات وطنك من دعم. «الدينُ لله، والوطنُ لمَن يحملُ رسالاتِ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم